المسح على الجوربين

قالوا: ما ترى في الشيخ محمد نمر الخطيب؟

قلت: هو شيخنا العلامة المسند الصالح الصيادي الرفاعي الحسيني، أصله من حَيفَا، ثغر فلسطين، طاف البلاد، وألقى في المدينة المنورة عصا الترحال، وتوفي بها، جمع بين العلم والعمل، والفقه والتقوى، والدعوة والجهاد، والتعليم والتربية. فأي شأن من شؤونه تنشُدون؟ وما الذي من أمره تستنبؤون؟

قالوا: تَناهَى إلينا أنه عَهِد إليك أن لا تمسح على الجوربين. 

قلت: نعم أوصاني به نصحًا لي ومحبة وتكريما. 

قالوا: وشهدناك تمسح على الجوربين وتفتي به!

قلت: كنتُ في مطلعي في بلاد الإفرنج لا أرى المسح على الجوربين وأصُدُّ الناس عنه، ثم عاينتُ ما يلقى الناس من مصاعبَ في غسل أرجلهم عند الوضوء في المرافق العامة، وقد تفوتهم صلواتهم في ظعنهم وقرارهم، وحلهم وترحالهم، فأنعمتُ النظر فيه وقلَّبت جوانبه، وأفتيت بجوازه، وأقرَّ كثير من الناس أن فتواي يسّرت لهم العبادة والمحافظة على الصلوات حيثما كانوا في أشغالهم وتجوالهم.

قالوا: كيف سوَّغت لك نفسك أن تعصي هذا الشيخ الصالح الرفيق، وتخالف أمر هذا العالم الناصح الشفيق، وقد اختصك بالوصية وأفردك بالنصيحة؟

قلت: اتَّسيتُ بالسلف الصالح من الأئمة المجتهدين والعلماء المحققين، فقد خالف أصحاب أبي حنيفة، والأوزاعي، ومالك، والثوري، والليث، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم رؤساءهم وأعلام مذاهبهم.

قالوا: فعلوا ذلك لدليل تحقق لديهم، فما دليلك؟ أعندك آية محكمة تُقرر المسح على الجوربين؟

قلت: لا،

قالوا: فحديث؟

قلت: حديث ضعيف،

قالوا: أنِفْنا لك من هذا القول، سمعناك تُبْطِل الرجوع إلى الحديث الضعيف في الأحكام والمسائل، وفي الرغائب والفضائل.

قلت: لم أحتجَّ به، وإنما حجتي أحاديث المسح على الخفين المستفيضة المشهورة، ومنها ما هو في الصحيحين.

قالوا: ألا تُبْصِر الفرق بين الخف والجورب؟

قلت: بلى، ولكنه فرق غير مؤثر في الحكم، وضَعُف قولكم وقول من تبعكم إن مَناط الحكم كون الخف من الجلد، والصواب أن الحكم منوط بكونهما ساترتين للقدمين، والخف والجورب سواء في الحاجة، فإذا تساويا في الحكمة والحاجة تساويا في الحكم، ويُستَبشع التفريق بين المتماثلَين، والجمع بين المتباينَين، ولقد غلِطتم في ذلك كما غلطتم في أمر الخمر، فذهبتم إلى أنها من العنب أو التمر، وأن ذلك هو مناط الحكم، وحرَمتم غيرها من الأشربة المسكرة قياسًا عليها، فأخطأتم المناط وتكلفتم القياس حيث لا قياس.

قالوا: لِنقتصرْ على الجوربين، وقد أَبَنْتَ منزِعك من الحديث، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فهل مسح على الجوربين أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟

قلت: مسح عليهما علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عمر، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبو أمامة، وسهل بن سعد، وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.

قالوا: وما هو مذهب غيرهم من الصحابة؟

قلت: لم يوجد لهم مخالف، وهذا الذي تسمونه إجماعا سكوتيا، وهو حجة في قولكم.

قالوا: وهل ذهب إليه أحد من التابعين وعلماء الأمصار؟ 

قلت: ذهب إليه سعيد بن المسيب، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والأعمش، وخلاس بن عمرو، وسفيان الثوري، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن حي، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي وغيرهم.

قالوا: أليس قد شرط بعضهم كون الجوربين ثخينين، أو كون الماء لا يشف منهما، أو كونهما يثبتان بأنفسهما بدون شد؟

قلت: هذه – ولقد علمتم – فروق طَردية، لا تأثير لها في الحكم، وقد روينا أن هذا ما آل إليه أمر أبي حنيفة رحمه الله في آخر حياته، قالوا: أَكْبَرنا هذا القول، قلت: فقد قال أبو عيسى – كما في نُسَخ من جامعه -: سمعت صالح بن محمد الترمذي، قال: سمعت أبا مقاتل السمرقندي، يقول: دخلت على أبي حنيفة في مرضه الذي مات فيه، فدعا بماء فتوضا، وعليه جوربان، فمسح عليهما، ثم قال: فعلت اليوم شيئًا لم أكن أفعله.

قالوا: وهل حكاه أحد من أصحابنا؟

قلت: حكاه الكاساني في بدائع الصنائع وغيره من المصنفين في المذهب الحنفي.

قالوا: ألمَمْنا بوجه قولك غير مقتنعين به ولا مدفوعين إليه.

قلت: ليس على العالِم الإقناع أو القسر والإكراه، وإنما عليه التعليم والبيان، والله المستعان، وعليه التكلان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين