صور نزول الوحي

عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قال: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نَزل عليه الوحيُ يُسمعُ عند وجْهه كدَويِّ النحل، فأنزل عليه يوماً فمكث ساعة، ثم سُرّي عنه فقرأ: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى عشر آيات منها من أولها، وقال من أقام هذه العشر الآيات دخل الجنَّة، ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زِدْنا ولا تَنْقُصْنا، وأكْرمْنا ولا تُهِنَّا، وأعطنا ولا تَحرمنا، وآثرْنا ولا تؤثرْ علينا، اللهم أرضنا وارض عنا). أخرجه الترمذي.

الألفاظ:

كدويِّ النحل: الدويّ: صوت خفيف يُسمع عند هُبوب الريح وطيران الطير أو النحل بمصادمة أجنحتها للهواء، ويسمى أيضاً حفيفاً، فالدويُّ صوتٌ ليس بالعالي.

والنحل: جماعة النحلة، للطائر المعروف الذي يجنى منه العسل.

ففي شعب البيهقي عن مجاهد قال: صاحبتُ عمرَ رضي الله عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا هذا الحديث: (إن مَثَل المؤمن كمثل النحلة، إن صاحَبْتَه نَفَعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالستَه نفعَك، وكل شأنه منافع، وكذلك النحلة كلُّ شأنها منافع).

قال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة: حِذْقُ النحل وفطنه، وقِلَّة أذاه، ومَنفعته، وقنوعه، وسعيه في النهار، وتنزُّهه عن الأقذار، وطيب أكله، فإنَّه لا يَأكل من كسبِ غيره.

وفي مسند الدارمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: (كونوا في الناس كالنحلة في الطير، إنَّه ليس في الطير شيء إلا وهو يَستضعفها، ولو تعلَّم الطير ما في أجوافها من البركة ما فعلت ذلك بها، خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالهم وقلوبكم، فإنَّ للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحبّ).

الوحي: 

القولُ الجامع في معنى الوحي لغةً: أنَّه الإعلام السريع الخاص بمن يوجَّه إليه بحيث يخفى على غيره.

ومنه الإلهام الغريزي كالوحي إلى النحل، ومنه إلهام الخواطر الطيِّبة، وما يمنحه الله تعالى من التثبيت في الحق لمن دون الأنبياء من خِيار خَلقِه الذين سَلِمَت فطرتُهم، وصفت سريرتهم، وزكت بالعمل الصالح نُفوسُهم، وهو ما يُسمَّى بالتحديث.

فقد ثبت في الحديث الصحيح: أنَّ عُمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من المحدَّثين، أي: الملهَمِين.

ويطلق أيضاً في اللغة: على الخواطر الشرِّيرة، وهي وسوسة الشيطان، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121].

وإذا أطلق في لسان أهل الشرع انصرف إلى ذلك التعليم السِّرِّي الصادر من الله تعالى الوارد إلى الأنبياء عليهم السلام وهو نوعان:

الأول: تعليم بواسطة المَلَك.

الثاني: وتعليم مباشرة لا بواسطة المَلَك.

وكلاهما يصحُّ أن يكون في اليقظة أو المنام، وهي الرؤيا الصادقة.

والتعليم بلا واسطة الملك له طريقتان:

إما بالإلقاء في القلب، وإما بالكلام من وراء حجاب، أي: بدون رؤية، كتكليم الله تعالى موسى عليه السلام.

والتعليم بواسطة المَلك يقع على وجهين أيضاً؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تارةً يشاهد الملَك عند الوحي، إما على صورته الحقيقية، وهذا نادر، وإما متمثلاً في صورة بشر فيُكلمه فيَعِي ما يقول.

فقد تمثَّلت الملائكة لإبراهيم ولوط عليهما السلام بصورة الناس، وتمثَّل جبريل لمريم عليها السلام بشراً سوياً، وظهر لنبينا صلوات الله عليه في صورة أعرابي جميل الخِلْقة يسمى دِحية الكلبي، كما في حديث الإيمان والإسلام الذي رواه مسلم في صحيحه.

وقد رأى صلوات الله عليه جبريلَ عليه السلام مرَّتين على صورته الأصليَّة التي خلقه الله سبحانه عليها، كما وَرد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند الإمام أحمد، وحديث عائشة رضي الله عنها عند الترمذي.

وتارةً لا يرى الملَك عند الوحي، بل يسمع عند قدومه دوياً وصلصلة شديدة يعلم الله كنهها ومصدرها، فتعتريه حالةٌ روحيَّة غير عاديَّة لا يُدرك الحاضرون منها إلا أماراتِها الظاهريَّة، كثقل بدنه، وتفصُّد جبينه عرقاً، وربما سمعوا عند وجهه الكريم دوياً كدوي النحل مدة نزل الوحي، كما في الحديث الذي نحن بصدد تفسيره وشرحه، حتى إذا قضى الملَك رسالة ربه، وأوحى إلى النبي إما بالكلام أو بالنَّفْث في رُوعه، انفصم عنه، وسُريت عنه تلك الشدة التي كان يجدها، فيرجع إلى حالته العاديَّة، وقد وعَى ما قال الملَك.

والوحي الشرعي بكل أنواعه يصاحبه علم من الموحَى إليه بأن ما ألقي إليه حق من عند الله تعالى، ليس من خطرات الأوهام، ولا من نزغات الشيطان، وهذا العلم يقيني ضروري، لا يخالجه شك، ولا يتولَّد من مقدِّمات.

فإذا عرفنا أنَّ هذه هي خصيصة الوحي بالمعنى الشرعي، عرفنا وجه اختصاصه بالأنبياء عليهم السلام، ولم يشكل علينا الفرق بينه وبين ما يُشبه بعض أنواعه من الإلهام والرؤيا الصادقة اللذَين يقعان لغير الأنبياء، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: (الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة).

وذلك لأن ما يقع للصالحين من الإلهامات ليس من العلوم اليقينية في شيء، وإنما هي سوانح مظنونة قد تلتبس فيها لَمَّة الملَك بلَمّة الشيطان، فيحتاج الملهَم إلى قرائن خارجية يعرف بها من أي النوعين هي.

وكذلك الرؤيا الصادقة التي تتفق لكثير من البشر، حتى الفسَّاق والكُفَّار، ليست لها هذه الخاصَّة، وإنما يقع ظنٌّ بصدقها لمن جَرَت عادتهم بذلك.

ولعلنا نحتاج في هذا المقام إلى تبيان الفرق بين الإلهام والفراسة، فالفراسة علم كسْبي استنتاجي من أماراتٍ سابقة، أما الإلهام فهو عِلم وهبي يُلقَى في النَّفْس دُفعة بدون مُقدِّمات.

وقد فُصِّلت في كتب الحديث والسِّيَر مراتبُ الوحي التي كانت لنبينا عليه السلام، ولعلَّ المعتدلين هم الذين أخذوا من الأحاديث ستَّ مراتب للوحي، نعتمد في نقلها على ابن القيم في زاد المعاد، والقسطلاني في المواهب اللدنية، والسهيلي في الروض الأنف، وهي:

1 – الرؤيا الصادقة: وكانت مبدأ وحيه صلوات الله عليه، فكان لا يَرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، والمدة التي كان يوحي إليه في المنام فيها ستة أشهر إلى أن استعلن له جبريل.

2 – ما كان يلقيه الملَك في رُوعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّ روُح القدُس نَفَث في رُوعي أنَّ نفساً لن تموتَ حتى تستكملَ رزقها، فاتقوا الله وأَجْمِلوا في الطلب، ولا يحملنَّكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإنَّ ما عند الله لا يُطلب إلا بطاعته).

3 – كأن يتمثَّل له الملَك رجلاً فيراه عياناً، ويخاطبه، حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يَراه الصحابة أحياناً.

4 – أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وكان أشدُّه عليه فيلتبس به الملَك حتى إن جبينه ليتفصَّد عَرَقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إنَّ راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها.

5 – أن يرى الملَك في صورته التي خلق عليها فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه.

6 – تكليم الله تعالى له من وراء حجاب بلا واسطة ملَك، كما كلم موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى عليه السلام بنص القرآن، وهي ثابتة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الإسراء.

هذه هي جملة الصور التي تمثِّلها لنا السُّنَّة من الوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

على أنَّ المطلوب من المؤمن في هذا المقام أن يُؤمن بالوحي مُجملاً كما بلغناه من غير أن يعلم صفة تلقي الملَك عن الله تعالى، لأنَّه من الغيب، ولا صفة تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جبريل لأنَّه من شأن النبوَّة ولسنا بأنبياء.

ساعة: زمناً ما ريثما ينقضي الوحي.

فسُرِّي عنه: انكشف الوحي وزالت شِدَّتُه عنه.

أقامهنَّ: عمل بهنَّ، ولم يخالفْ ما فيهنَّ، كما يُقال فلان يقوم بعمله.

آثِرْنا: فَضِّلنا على سائر الأمم.

ولا تؤثر علينا: ولا تفضِّل علينا أحداً من خَلقك.

وأَرْضِنا: هبْ لنا نعمة الرضى عنك، فلا نسخط قضاءك، ولا نبطر نعمتك.

المعنى:

من صور أنواع الوحي ما حدَّث به في هذا الحديث، وهو: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل عليه الوحي في هذه المَرَّة، وكان يُسمع له دويٌّ كدويِّ النحل، فلبث ساعةً من الوقت على هذه الحالة، ثم انكشف عنه صلى الله عليه وآله وسلم الوحي وزالت شِدَّتُه، فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ العشر الآيات من أوائل سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ(7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9) أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ(10) ]. {المؤمنون}.

وقد اشتملت هذه الآيات على ثمانِ خصالٍ من دعائم الدين:

1 – الإيمان، وهو رأس الأمر كله.

2و3 – الخشوع في الصلاة وإيتاء الزكاة، فالصلاة رأس العبادات البدنيَّة، والزكاة أم العبادات الماليَّة.

4و5 – حفظ اللسان والسمع عن اللغو، وحفظ الفرج عما لا يحل.

6و7 – تأدية الأمانات إلى أهلها، والوفاء بالعهود، وهما رأس الآداب الاجتماعيَّة، التي تجب على الإنسان لأخيه الإنسان، وبدونهما تقع الفوضى، ويختل بنيان العمران.

8 – المحافظة على الصلاة. أرأيت إلى العناية بالصلاة حيث بدأت الآيات بها، وختمت بها، فقد وصَّى الله تعالى أولاً: بالخشوع فيها، ووصَّى أخيراً: بالمواظبة على أدائها.

فقد روى النسائي بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (أول ما يُحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يُقضى بين الناس في الدماء).

ثم استقبل صلى الله عليه وآله وسلم القبلة ورفع يديه داعياً، وهذان الأمران من آداب الدعاء المسنونة عند بعض العلماء.

وقال: (اللهم زدنا ولا تنقصنا) فسأل الله تعالى الزيادة ولم يبين المزيد منه، ليعمَّ خيري الدنيا والآخرة.

(وأكرمنا) بالتوفيق للعمل بما علمتنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13].

(ولا تُهنَّا) بالخذلان عن طاعتك.

(وأعطنا) ما وعدتنا من وراثة الفردوس.

(ولا تحرمنا) ثوابك الذي أعددت لنا.

(وآثرنا) فَضِّلنا على سائر الأمم.

(ولا تؤثر علينا) أحداً من خلقك.

فإن قال قائل: أليس قد ندبنا الله تعالى إلى الإيثار، ونهانا عن الاستئثار؟ قلنا: ذاك في حظوظ الدنيا العاجلة، أما التماس أقرب مراتب الحظوة والزلفى عند الله جلَّ جلاله، فهذا مجال يتنافس فيه المتنافسون.

ثم استمرَّ صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه فقال: 

(وأَرْضِنا) هبْ لنا نعمةَ الرضى.

(وارضَ عنا) فلا تجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين.

وإذا نظرنا في واقع جُمل هذا الدعاء بعضها من بعض لا نرى أحسن منها ترتيباً وانسجاماً.

فقد بدأ صلى الله عليه وآله وسلم بطلب المزيد من العلم، وثنَّى بطلب التوفيق للعمل به، وهذا ترتيب طبيعي؛ لأنَّ العلم مقدَّم على العمل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، ثم طلب النوال، فمن وفَّى عمله استحقَّ أجره: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرَّحمن:60].

ثم ترقَّى صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الطلب، فسأل أعلى درجاته، ثم سأل الرضى والرضوان الذي هو نهاية مقاصد الواصلين، وفيه يقول الله تعالى في كتابه بعد وصف نعيم الجنة: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] ويقول تعالى في حديثه القدسي لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! فيقولون لبيك ربَّنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتَنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلُّ عليكم رضواني، فلا أسخطَ عليكم بَعْدَه أبداً).

اللهم أعطنا ولا تَحْرِمْنا، وآثرْنا ولا تؤثِرْ علينا، اللهم أرضِنا وارضَ عنا.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام)، العدد: 2 ، السنة 7، 1372=1953 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين