حدث في الثاني عشر من جمادى الآخرة انقلاب عسكري في إيران 

من جمادى الآخرة من عام 1339=21/2/1921 جرى انقلاب عسكري في إيران أطاح بالحكومة القائمة التي عينها الشاه أحمد القاجاري لتأتي محلها حكومة السيد ضياء الدين الطباطبائي، وقام بالسيطرة على العاصمة الإيرانية طهران مقدم في الرابعة والأربعين من عمره يدعى رضا بهلوان، وسيصبح فيما بعد وزير الحربية، ويعتبر المؤرخون هذه الحركة التي تدعى انقلاب 21 فبراير نهاية الدولة القاجارية وبداية الدولة البهلوية في إيران.

وتعود بداية حكم الأسرة القاجارية إلى سنة 1779، حين قام آغا محمد خان رئيس قبيلة القاجار التركمانية بالتمرد على أسرة الزَند التي كانت تحكم جنوب إيران، و بعد نجاحه في القضاء على خصومه انطلق ليحقق طموحه في توحيد إيران، وفي سنة 1796 أعلن نفسه ملكاً على إيران بلقب الشاه، الذي يعني الملك بالفارسية، ولم يتمتع آغا محمد بعدها بالملك سوى سنة إذ اغتيل في سنة 1797 ليعقبه ابن أخيه فتح علي شاه، والذي حكم البلاد مدة استمرت 37 سنة إلى سنة 1834، وعادت على البلاد بالويلات، فقد خاض حربين خاسرتين مع روسيا، جرت الأولى في سنة 1804 عندما قرر حاكم جورجيا أن يخرج من الولاية الفارسية لينتقل تحت الإمبراطورية الروسية، ودامت الحرب 9 سنوات حتى سنة 1813 حين تنازل الشاه عن جورجيا ومعها داغستان وأذربيجان الشمالية، وفي سنة 1826 توفي القيصر الروسي الكساندر الأول، فظن الشاه فتح علي أن الفرصة قد واتته ليسترجع ما خسره، وهاجم روسيا في حرب دامت سنتين، واضطر لإنهائها في سنة 1828 أن يتنازل عن أرمينيا الفارسية.

وتوفي فتح علي شاه في سنة 1834 وخلفه حفيده محمد شاه الذي خضع للنفوذ الروسي وحاول مرتين دون نجاح أن يستولي على هَراة في أفغانستان ، وتوفي محمد شاه في سنة 1848 وخلفه ابنه الشاب ناصر الدين المولود سنة 1831، والذي سيثبت أنه أكثر ملوك الأسرة القاجارية كفاءة، ويحقق نجاحاً ملحوظاً في تطوير إيران، واستغل ناصر الدين التنافس الشديد بين روسيا وبين بريطانيا ليحافظ على استقلال إيران، ولكنه في السنوات الأخيرة من حكمه منح الأجانب امتيازات احتكارية كثيرة مقابل مبالغ كبيرة دخلت إلى جيبه، وهو الأمر الذي أثار امتعاض عامة الشعب بسبب ثقل وطأة ارتفاع الأسعار، وأثار كذلك امتعاض التجار الإيرانيين الذين خسرت تجاراتهم بسبب الاحتكار.

وبلغ الامتعاض ذروته في سنة 1890 عندما منح الشاه ضابطاً بريطانياً حق احتكار بيع وتوزيع وتصنيع التبغ ومشتقاته في إيران لمدة 50 سنة، وذلك مقابل أن يحصل على 15.000 جنيه وربع أرباح الاحتكار السنوية، وبين عشية وضحاها صار على زراع التبغ أن يبيعوه لشركة التبغ الإمبراطورية بالسعر الذي تحدده بعد أن كانوا يبيعونه في المزاد، وتبلورت المعارضة الشعبية لهذا القرار في مقاطعة عامة للتبغ ومشتقاته شملت البلاد بأكملها، وبلغت ذروتها عندما أصدر أية الله ميرزا حسن شيرازي، المولود سنة 1814 والمتوفى سنة 1896، فتوى جاء فيها أن استعمال التبغ المشمول بالاحتكار هو بمثابة حرب على الإمام المهدي! ولم يتوقع أحد أنه في بلد ابتلي بالتدخين في كل طبقاته ستكون الاستجابة الشعبية لهذه الفتوى شاملة شمولاً أدهش المراقبين، وخشيت منه الحكومة البريطانية، فخففت من دعمها للشركة، وألغى الشاه الاتفاق مقابل أن يدفع للشركة تعويضاً قدره نصف مليون جنيه، ويعتبر المؤرخون هذه الحركة بداية الإحياء الوطني الحديث في إيران.

و في سنة 1896 وبعد 48 سنة من حكمه اغتيل الملك ناصر الدين على يد أحد الناقمين الذي يقال إنه من أتباع جمال الدين الأفغاني، وأعقبه ابنه مظفر الدين، وعمره 47 سنة، والذي كان غير كفؤ للحكم، ضعيف الشخصية منهكماً في اللذات ومبذراً دون حدود، جاء والبلاد مديونة لبريطانيا وروسيا فزاد من أعباء الديون عليها، فوقعت البلاد في ضائقة مالية شديدة نتجت عنها احتجاجات واسعة تمخضت عن حركة موحدة طالبت بالملكية الدستورية والحد من السلطات التي يتمتع بها الملك، وتسمى في التاريخ الإيراني مشروطيت.

ولقيت الحركة تأييداً شعبياً واسعاً، وأيدتها بريطانيا كذلك، فاضطر الشاه أن يعلن دستوراً للبلاد يحد كثيراً من صلاحيات الشاه، وفي آخر سنة 1906 شهدت إيران افتتاح أول مجلس شورى منتخب يتكون من 156 نائباً كان أغلبهم من طبقة تجار طهران، ويسمي عرفاً في التاريخ الإيراني: المجلس، وتوفي مظفر في سنة 1907 بعد 5 أيام من توقيعه الدستور الذي تضمن أن الملك يخضع لحكم القانون، وأن التاج الإيراني هو هدية إلهية يمنحها الشعب للشاه.

ولا بد أن نذكر هنا أن مظفر الدين منح في سنة 1901 مليونيراً لندنياً، هو وليام دارسي، امتيازاً مدته 60 سنة للتنقيب في إيران عن النفط واستخراجه مقابل دفعة قدرها 20.000 جنيه وحصة تماثلها في الشركة و16% من أرباح الشركة، واكتشفت الشركة النفط في سنة 1908 وغيرت اسمها إلى شركة النفط الأنجلوفارسية، وهو الاسم الذي تغير فيما بعد إلى شركة النفط الأنجلوإيرانية، ثم في سنة 1954 إلى شركة النفط البريطانية المعروفة اليوم: بريتش بتروليوم.

وجاء إلى عرش البلاد بعد وفاة مظفر الدين ابنُه محمد علي شاه الذي حاول أن يعود بالأمور للوراء ويلغي الدستور والحكومة البرلمانية، وذلك باستغلال الخلافات التي بدأت تدب بين أعضاء المجلس والتيارات التي تؤيدهم، وكانت روسيا وبريطانيا قد وقعتا قبل قليل اتفاقية تقاسمتا فيها النفوذ في إيران، فحولت بريطانيا دعمها إلى الشاه القاجاري، الذي ألغى الدستور بحجة مخالفته للشريعة الإسلامية وحلَّ المجلس النيابي، ولما اعتصم به النواب هاجمه بالمدفعية، وأيدته في ذلك عسكرياً وسياسياً روسيا وبريطانيا، وأمدته روسيا بقوات القوزاق المشهورة بقسوتها.

واندلعت في البلاد حرب أهلية بين مؤيدي الدستور وبين مؤيدي الشاه، وكانت الغلبة للقوات المؤيدة للدستور التي وصلت من المقاطعات الأخرى إلى طهران في منتصف 1909 وسيطرت عليها، ثم عزلت الشاه وأعادت الدستور، وانتخب المجلس ابن الشاه المخلوع: أحمد شاه، وهو في الحادية عشرة من عمره ، وهرب الشاه المعزول إلى روسيا وحاول في سنة 1911 أن يستعيد عرشه بالقوة بمساعدة روسيا، ولكن قواته هزمت فذهب إلى المنفى في استانبول ثم في سان ريمو في إيطاليا حين توفي سنة 1925، ونقل جثمانه ليدفن في كربلاء.

وأصبح حكم البلاد عملياً في يد المجلس الذي أنشأ محاكم خاصة شنقت كبار المحرضين في الحرب الأهلية، وأجرى المجلس إصلاحات انتخابية من شأنها أن تجعل المجلس أفضل تمثيلاً للسكان، وجرت انتخابات جديدة في آخر سنة 1910 جاءت بما يدعى: المجلس الثاني، لكن ذلك لم يأخذ البلاد بسرعة إلى ضفاف الاستقرار، فقد كانت الحكومة المركزية ضعيفة عاجزة عن بسط سلطتها وإخماد القلاقل الداخلية التي بقيت مستعرة بعد الحرب الأهلية، إضافة إلى التدخل المستمر من روسيا وبريطانيا في شؤون البلاد، ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، كانت أراضي إيران ساحة للمعارك بين القوات العثمانية وبين القوات البريطانية والروسية، وهو ما ساهم في زيادة النقمة على الأوضاع وزيادة الرغبة في التغيير الجذري.

وجاءت قاصمة الظهر بعد الثورة الشيوعية في روسيا في سنة 1917، فقد حاولت بريطانيا القضاء على الثورة البلشفية منطلقة من إيران، وفشلت الحملة، وكان من عواقبها أن قام جيش الاتحاد السوفييتي بضم أجزاء من شمال إيران لتكون منطقة عازلة بينها وبين الأراضي الروسية، وهي عين السياسة القيصرية، وأقامت روسيا في جيلان الجمهورية الإيرانية الشعبية السوفياتية، ثم تقدم الجيش السوفياتي نحو طهران لتعرى الحكومة والشاه أمام الشعب، فقد ظهر عجزهما عن مواجهة الاحتلال عسكرياً وسياسياً، واتضح أن الحكومة كانت مهلهلة إلى حد لم يتخيله أحد، وكانت سيطرة دولة تتبنى الإلحاد رسمياً على إيران أمراً جعل مراجل الغضب تغلي مرارة في قلوب الشعب الإيراني، ولئن بقيت الحكومة في طهران إلا أن أغلب البلاد كانت قد خرجت من تحت يدها ليسيطر عليها الجيش الأحمر السوفياتي أو أمراء الحرب.

وزاد الطين بلة أن الاستقطاب بلغ أشده بين الحزبين الكبيرين في البلاد: الديمقراطي والمعتدلين، وكانا في نزاع مستمر، حول شكل الحكم، واتِّباع العلمانية أم الشريعة، وتطور الخلاف إلى نزاع شابه العنف والاغتيالات، وأصبحت الخزينة الإيرانية على حافة الإفلاس وكان على الحكومة والشاه أن يُحمِّلا البلاد أكثر بالاقتراض لدفع النفقات الحكومية.

وأصبحت الدولة كشجرة خاوية جاهزة للسقوط، وتآمرت على إسقاط الحكومة مجموعة من الناشطين السياسيين يرأسهم صحفي شاب اسمه سيد ضياء الدين طباطبائي، وشجعتهم بريطانيا على ذلك لتنتزع من الاتحاد السوفياتي إيران وتعيدها إلى دائرة نفوذها، وتولى الجانب العسكري من الانقلاب المقدم رضا خان قائد القوة العسكرية والوحيدة التي كانت فعالة والمسماة سرايا القوزاق، فجاء من قزوين وهمذان بقواته التي بلغت قرابة 3.000 جندي ونشرها في طهران، وسيطر عليها بسرعة ودون إراقة دماء تُذكر، وذلك في الثاني عشر من جمادى الآخرة كما ذكرنا في البداية، وأجبر رضا خان الشاه على حل الوزارة وتعيين ضياء الدين طباطبائي رئيساً لوزارة صار هو فيها وزير الدفاع ورئيس الجيش.

ولد رضا خان في سنة 1878، وكان أبوه ضابطاً في الجيش الفارسي، وتوفي والده وهو رضيع فجاءت به أمه إلى بيت خاله في طهران، وانضم للجيش وهو شاب، وانتهى به الأمر أن أصبح ضابطاً في سرايا القوزاق ثم قائداً لها، ثم ليقوم بالانقلاب ويصبح الرجل الأقوى في البلاد.

ووقَّعت الحكومة بعد أسبوع اتفاقية صداقة مع الاتحاد السوفياتي، أعادت بموجبها روسيا المناطق التي احتلتها من إيران واحتفظت بحقها في التدخل العسكري دفاعاً عن النفس، وتنازلت كذلك لإيران عن السكك الحديدة والموانئ الإيرانية التي كانت مملوكة لروسيا، وبعد أن استطاع تحييد الجانب الروسي اتجه رضا خان على رأس الحملات التي شنها لبسط سلطة الدولة على البلاد التي انبثق فيها التمرد في عدة مقاطعات، وبحلول 1923 استطاع تحقيق قدر كبير من الاستقرار الداخلي والخارجي، فعاد إلى طهران حيث جعل من نفسه رئيساً للوزراء، فغادر الشاه أحمد القاجاري البلاد، وأصبح رضا خان حاكمها الذي لا ينازعه أحد.

وفي آخر سنة 1925 قام المجلس بخلع شاه أحمد القاجاري وتعيين رضا خان شاهاً على إيران وفقاً للدستور الإيراني، وتسمى برضا شاه البهلوي، وتم تتويجه بعد 4 أشهر وأعلن في حفل التتويج أن ابنه محمد رضا، وعمره 6 سنوات، سيكون ولياً للعهد من بعده.

وكان رضا شاه مثله مثل أي ضابط عسكري يتطلع للحكم الفردي ويرى الشورى أو الديمقراطية مضيعة للوقت، وكانت خطته في الحكم تقوم على القضاء على نفوذ رجال الدين وتذويب الفوارق العرقية والقبلية، وألا يسمح باندلاع أي تمرد، ومن الناحية الأخرى كان على قناعة تامة أن طريق التطور الإيراني يمر عبر اتباع سياسة تغريب شاملة تشمل تغريب التعليم والمرأة مثلما تشمل إقامة المنشآت الاقتصادية والصناعية، وقام في السنوات الثمان الأولى من حكمه بالتعاون والتشارك مع عدد من الساسة الإيرانيين الذين كانوا يشاركونه رغبته التغريبية، ثم ما لبث أن أبعدهم وصار يحكم وحده دون استشارة السياسيين ذوي الرأي المستقل، وكان يبرر ذلك بمقولته الشهيرة: لكل دولة نظام حكم، ونظامنا حكم الرجل الواحد. وكان رضا شاه معروفاً بغطرسته وقسوته في التعامل مع مرؤوسيه أو أفراد الشعب.

وفي إطار حركته التغريبية أصدر رضا شاه أمراً في آخر سنة 1928 يجبر كل مواطنيه على ارتداء الملابس الأوروبية بما فيها القبعة، وأعفى من ذلك المشايخ الذي تمنحهم الدولة الاستثناء، وتبنَّى رضا شاه حركة الصحوة النسوية التي كانت تريد القضاء على الحجاب في إيران بحجة أنه يعيق مشي المرأة وحركتها في العمل، ويحول بينها وبين المشاركة في تقدم الأمة، ومنع المدرسات من الحضور للمدارس إلا إن تركن الحجاب، كما شجع الاختلاط بفرضه قوانين تجبر المحلات العامة عليه.

وبلغ السيل الزبا عند رجال الدين في سنة 1935، فخرجت مظاهراتهم في مدينة مشهد تحت شعار: الشاه هو يزيد الجديد! وأصدر رضا شاه أوامره للشرطة الجيش باقتحام مشهد الإمام الرضا الذي تحصن فيه المتظاهرون، ولكنهم رفضوا ذلك فجاء بقوات من أذربيجان اقتحمته وقتلت عشرات من المتظاهرين، وقضت الحادثة على أي أمل في قيام علاقة طبيعية بين الشاه وبين رجال الدين، وازداد بعدها رضا شاه عتواً وأصدر أوامره بمنع لبس الحجاب وأجبر كل من يحضر المناسبات العامة التي تقيمها الدولة أن يأتوا مع زوجاتهم دون حجاب، واستمر رضا شاه في غلوائه فأمر بمنع تصوير أية مظاهر تدل في نظره على التخلف مثل الحمير والجمال، وقام كذلك في سنة 1935 بتغيير اسم الدولة من فارس إلى إيران، أي أرض الآريين، وكان أحد دوافعه في هذا العودة بأساس الشخصية الوطنية لما قبل الحقبة الإسلامية.

وفي إطار مخططاته الاستبدادية استبعد رضا شاه كل السياسيين القديرين الذين كانت لهم قدم سبق في السياسة الإيرانية، ولم يشفع لهم اشتراكهم معه في الوجهة التغريبية، فقام في سنة 1932 بتلفيق تهمة لرئيس بلاطه عبد الحسين تيمور تاش، الذي كان رئيس الوزراء من قبل، وألقاه في السجن حيث مات في ظروف مشبوهة في سنة 1933، ثم أعقبه بوزير المالية الأمير نصرة الدولة فيروز ميرزا فزجه في السجن سنة 1930 حتى مات سنة 1938، ولما جاء الدور إلى وزير العدل علي أكبر داور انتحر بدلاً من المهانة.

واستند الشاه في حكمه على ثلاث ركائز: الجيش الذي تضاعفت ميزانيته 5 أضعاف خلال فترة حكمه وكانت رواتب ضباطه أعلى الرواتب الحكومية، والجهاز الحكومي الذي تضخم أضعافاً مضاعفة، واعتمد كذلك على المناصب والمنح المالية التي كان ديوان الشاه يشتري بها السكوت والولاء، وكانت الانتخابات البرلمانية في زمنه مزورة بامتياز، فقد كان رئيس الشرطة يرفع إلى وزير الداخلية قائمة بمن يرشحهم لمنصب النيابة في منطقته، وهذا بدوره يرسل القائمة إلى هيئة الانتخابات، التي كانت تحت سيطرة وزارة الداخلية، لتقوم باستبعاد كل ما لا ترضى عنه الشرطة السرية، وهكذا تقهقر حكم إيران في عهده إلى الوراء من حكم قائم على الشورى إلى حكم عسكري بلباس مدني صفيق.

قام رضا شاه متجاوباً مع الشعور الشعبي في إيران بإعادة التفاوض مع شركة النفط الأنجلوإيرانية، وذلك على أساس أن الاتفاقية الأولى أبرمتها تحت ظروف الإذعان حكومة غير دستورية، واستمرت المفاوضات من سنة 1928 إلى سنة 1932، وانتهت بتعديلات على الاتفاقية أقل بكثير من المطالب الإيرانية ودون التطلعات الشعبية المتأججة، بل وأضافت 32 سنة أخرى لمدة الاتفاقية.

وعلى صعيد السياسة الخارجية كانت سياسة رضا شاه هي تحجيم النفوذ البريطاني القوي بالتوجه للتعاون مع القوى الأوروبية الأخرى، وذلك نحو القضاء نهائياً على النفوذ الأجنبي في إيران، فألغى معاهدة 1921 الموقعة مع روسيا، وعين أمريكياً في منصب وزير المالية، واستعان بالخبرات الألمانية والإيطالية لتطوير الجيش والبحرية، وألغى امتياز الأجانب في التقاضي للمحاكم الخاصة، ونقل حق طبع العملة إلى البنك الوطني الإيراني من البنك البريطاني الإمبراطوري.

وعلى صعيد عملي اتبع رضا شاه سياسة الحياد بين الدول، ولكن مطامع بريطانيا وروسيا كانت واضحة للعيان، فالنفط الإيراني الحيوي كان جائزة مغرية لمن يسيطر على إيران، وكان حكام إيران حتى من قبل رضا شاه قد نمَّوا العلاقات مع ألمانيا لمواجهة هذا التطلع الروسي والبريطاني، وحيث لم يكن لألمانيا تاريخ استعماري مع إيران فقد تقبل الإيرانيون التعاون معها أكثر بكثير من التعاون مع هاتين الدولتين، ولما استولى النازيون على الحكم في ألمانيا في سنة 1933 تابعوا العلاقات الاقتصادية مع إيران، وصارت أبواق الدعاية النازية توحي أن الشاه يميل إلى ألمانيا، فكلا الشعبين ينتميان إلى العرق الآري، وهو أمر لم يكن له في الواقع ما يؤيده، ولكن الدعاية البريطانية تلقفته ذريعة لتقوم باحتلال إيران التي أعلنت حيادها عندما شبت نيران الحرب العالمية الثانية في سنة 1939.

وكان لدى بريطانيا أسبابها لاحتلال إيران وأولها السيطرة المباشرة والتامة على مصفاة نفط عبادان التي كانت تملكها شركة النفط الأنجلوإيرانية، ويكفى لبيان أهميتها أن تذكر أنها في سنة 1940 أنتجت 8 ملايين طن من النفط الذي قال عنه تشرشل: إن كل قطرة منه تساوي قطرة دم.

وكانت السكة الحديدية المسماة خط عبر إيران والمملوكة للاحتكارات البريطانية هي ثاني هذه الأسباب، فبعد أن غزا هتلر روسيا في منتصف سنة 1941 عقدت بريطانيا تحالفاً مع روسيا وبدأت في إمدادها بكل ما تحتاجه للدفاع أمام الجيش الألماني الذي كان يتقدم باضطراد في الأراضي السوفياتية، وكانت السكة الحديدية أسهل وسيلة لتزويد السوفيات بعيداً عن السطوة الألمانية التي كانت غواصاتها تزداد عتواً في البحر وتفتك بالسفن البريطانية، وأصبحت السكة الحديدة بعد قليل شريان الحياة للسوفيات في مواجهتهم لقوات هتلر الزاحفة شرقاً ومساهمتهم في تخفيف الضغط عن بريطانيا وحلفائها في القتال الدائر في الغرب.

وكانت لدى روسيا الشيوعية أسبابها لتغزو إيران كذلك، فقد كانت تريد ضم الجزء الإيراني من أذربيجان إلى مثيله في الاتحاد السوفيتي، وتطمح أن تجعل من إيران دولة شيوعية أو تدور في الفلك الشيوعي.

وبتحالف الدولتين الشيوعية والبريطانية لم يعد رضا شاه يستطيع أن يوازن إحداها بالأخرى، وبدأت الدولتان تضغطان على الشاه وحكومته ليساير سياساتها ويضع بلاده تحت تصرفهما في حربهما مع ألمانيا، ولكن هذا زاد من جو التوتر وخرجت مظاهرات الوطنيين في طهران تندد بالسياسات البريطانية، ولم يكن غريباً أن تصفها الدعاية البريطانية بأنها مظاهرات تأييد لألمانيا.

ووجهت الدولتان إنذاراً للشاه ليطرد من إيران الرعايا الألمان، الدبلوماسيين والعاملين، وكان عددهم حوالي 700 مقارنة مع 2.600 بريطاني، ولما رفض الشاه ذلك، اتخذت الدولتان ذلك ذريعة وقامت الجيوش البريطانية والروسية بغزو إيران في 25/8/1941، وذلك دون إعلان الحرب على إيران كما تقتضى الأعراف والقوانين الدولية، واستدعى الشاه السفيرين الروسي والبريطاني محتجاً على غزو بلاده ومتسائلاً عن السبب، ولما قيل له إنه وجود الألمان في إيران، سأل الشاه السفيرين إن كان الغزو سيتوقف لو طردهم؟ فلم يُـحِرْ السفيران على ذلك جواباً.

وأرسل الشاه برقية للرئيس الأمريكي روزفلت يذكره فيها بما أعلنه في ميثاق الأطلسي من وجوب حماية مبادئ العدالة الدولية وحق الشعوب في الحرية، ويناشده إيقاف هذا العمل العدواني الذي شن حرباً على أمة محايدة مسالمة تسعى وراء السلم والتطور. وكانت نتيجة استجارته أن أجابه روزفلت في توبيخ مبطن: إن القضية يجب أن لا ينظر لها فقط من الزاوية التي أثارها جلالتكم، بل هناك اعتبارات جوهرية أخرى ناتجة من طموح هتلر في السيطرة على العالم، ولا شك أننا إذا لم نوقف بالقوة المسلحة ألمانيا فإنها ستستمر في غزوها إلى ما وراء أوروبا؛ إلى آسيا وأفريقيا وحتى الأمريكيتين، وفي نفس الوقت فإنَّ البلدان التي ترغب في الحفاظ على استقلالها عليها أن تشارك في المجهود الجماعي القائم إن أرادت ألا تسقط واحدة تلو الأخرى كما حصل لعدد كبير من الدول الأوروبية. وانطلاقاً من هذه الحقائق فإن الولايات المتحدة الأمريكية كما هو معروف لم تقف عند بناء دفاعاتها بسرعة البرق، بل شاركت في برنامج واسع من المساعدات المادية للدول التي تقاوم مقاومة فعالة الطموح الألماني للهيمنة على العالم. وأشار روزفلت في لفتة طمأنة للشاه أن البيانات التي أصدرتها الحكومتان البريطانية والسوفياتية توضح أن ليس لهما مخططات تمس من استقلال أو وحدة الأراضي الإيرانية.

ولم يستطع الجيش الإيراني مواجهة الغزو مواجهة فعالة، لأسباب منها رفض الشاه نصيحة قواده العسكريين بتدمير الطرق والجسور لإعاقة تقدم الجيشين الغازيين، فقد عزَّ عليه تدمير هذه المنشآت التي بناها في سنين طويلة وأنفق عليها الأموال الطائلة، ومن ناحية ثانية كان تحديث الجيش الإيراني لم يكتمل بعد، وكان جزء كبير منه موجه للسيطرة على الأمن الداخلي، ولما بدا أن المقاومة غير مجدية أمام الجيش الروسي القادم من الشمال والبريطاني القادم من العراق، أمر الشاه قواته بوقف القتال بعد 4 أيام من بدء الغزو، ولكن ليس بعد أن أبدى الإيرانيون مقاومة شديدة في عبادان بالذات، التي كانت مصفاتها ومرافق النفط فيها أهم أهداف بريطانيا من الغزو.

وشعر رضا شاه بإذلال وخيبة أمل شديدة إزاء قادة جيشه الكبار الذين كانوا غير أكفاء على الإطلاق وهو الذي لم يبخل على قواتهم بمال أو جهد، وكان عدد لا يستهان به منهم يتعاطفون مع بريطانيا ولذا لم يقوموا بأي مقاومة حقيقة للغزو، بل اجتمع كبار الضباط سراً لمناقشة خياراتهم إزاء الاستسلام للقوات الغازية، وهو أمر أثار حنق الشاه لما علم به لدرجة أنه انهال ضرباً بالعصا على قائد الجيش وكاد أن يطلق عليه النار من مسدسه.

وتمهيداً للتفاوض مع القوى المحتلة أقال رضا شاه رئيس وزرائه علي منصور ذا الميول البريطانية وعين محله محمد علي فروغي، ولكن رئيس الوزراء الجديد كان يكره الشاه الذي أقاله قبل سنوات وأعدم ابنه، فأدار المفاوضات مع البريطانيين على نحو يزعزع مكانة الشاه وينحو للتخلص منه، ووافق في المفاوضات على إغلاق البعثات الدبلوماسية لدول المحور، وتسليم المدنيين من الألمان بما فيهم العائلات إلى السلطات البريطانية والروسية، مما يعني سجنهم لدى الأولى وإعدامهم في الغالب على يد الثانية، وأخّر الشاه تنفيذ هذه الفقرة من الاتفاقية وقام بترتيب تهريب أغلب المواطنين الألمان عبر الحدود إلى تركيا.

وقام الجيش الأحمر الروسي باحتلال طهران، وكان البريطانيون يريدون إعادة الأسرة القاجارية إلى الحكم حيث خدمت من قبل المصالح البريطانية خدمة جيدة، ولكن بحثهم تمخض عن أن وريث العرش من السلالة القاجارية؛ حامد حسن مرزا، كان لا يتحدث الفارسية إذ كان مواطناً بريطانيا! ولذا قبلوا اقتراح فروغي أن يعينوا ابنه وولي عهده محمد ليصبح شاه إيران الجديد، وعرضوا على الشاه رضا أن يعتزل كمخرج مشرف من الأزمة، فوافق فوضعته بريطانيا في الإقامة الجبرية ثم نفته إلى جنوب أفريقيا حيث عاش حتى وفاته، عن 66 سنة، في سنة 1944.

وكان معروفاً عن رضا شاه جشعه وتكديسه الأموال، وكثيراً ما أجبر الرعية على بيعه ممتلكاتهم بثمن بخس إن لم يصادرها، وبلغت ثروته عند اعتزاله 3 ملايين جنيه و12 مليون متر مربع من الأراضي.

ووقع الشاه الجديد محمد رضا اتفاقية تحالف مع بريطانيا والاتحاد السوفياتي بعد 3 أشهر من تنصيبه، وتضمنت الاتفاقية أن تقدم إيران للحلفاء المساعدة غير العسكرية، والتزم الحلفاء فيها بأن يغادروا إيران في مدة أقصاها 6 أشهر بعد انتهاء الأعمال الحربية، وفي أواخر سنة 1943 أعلنت إيران الحرب على ألمانيا مما أهلها لعضوية الأمم المتحدة، وعدا عن المساعدات الإيرانية فقد ساعد الحلفاء المحتلون أنفسهم ومدوا أيديهم إلى محاصيل الغلال تاركين الشعب الإيراني يعاني من المجاعة، ويقدر المؤرخون أن 25% إلى 33% من الإمدادات لروسيا مرت عبر إيران.

وقام نظام ستالين الشيوعي ببث النفوذ السوفياتي في أذربيجان والمناطق الكردية في شمال غربي إيران، وكان له دور في تأسيس الحزب الشيوعي الإيراني المعروف باسم تُوُدَه، وأثار السوفيات في المناطق التي احتلوها النزعات بين الفلاحين ومُلاك الأراضي، وفي أخر سنة 1945 أعلن في المناطق المحتلة من روسيا عن قيام الجمهورىة الشعبية الأذربيجانية وكذلك الجمهورية الشعبية الكردية، ومنع الجيش الأحمر الروسي القوات التي أرسلها الشاه لفرض سلطة الحكومة من جديد، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت بريطانيا في الانسحاب وفقاً للاتفاقية ولكن السوفيات ماطلوا في الانسحاب بضعة أشهر، وشكتهم إيران قبل ذلك رسميا إلى مجلس الأمن المشكل حديثاً، وهي أول شكوى تقدم إليه، ولكن مجلس الأمن لم يتخذ أية خطوات للضغط على السوفيات، الذين ما لبثوا أن انسحبوا وانتهت بذلك حقبة الاحتلال العسكري الروسي البريطاني.

وحيث تحدثنا عن الاحتكارات والامتيازات ودورها في هذه المرحلة من تاريخ إيران، فلا بد أن نذكر الزعيم الإيراني محمد مصدَّق المولود سنة 1880، والذي تبوأ أول منصب رسمي له بعد انقلاب رضا خان، وذلك حين تولى في سنة 1921 وزارة المالية ثم وزارة الخارجية لفترة قصيرة، وانتخب عضواً في المجلس سنة 1923، ثم ما لبث أن استقال عندما نصب رضا خان نفسه ملكاً على البلاد في 1925 وذلك لمعارضته لهذا الأمر.

وبعد اعتزال رضا شاه العرش في سنة 1941 وتولي ابنه محمد رضا شاه عاد مصدق للنشاط السياسي، وانتخب في سنة 1944 عضواً في المجلس، ونظراً لمشاعره الوطنية القوية نجح في ألا يوافق المجلس على منح الاتحاد السوفياتي امتيازات نفطية في شمالي إيران تماثل ما لبريطانيا في جنوب إيران، واستطاع أن يحشد تأييداً قوياً لدعوته إلى تأميم الامتيازات والمنشآت النفطية التابعة لشركة النفط الأنجلوإيرانية، وكان نجاحه الأكبر في سنة 1951 حين أصدر المجلس قانوناً يقضي بتأميم النفط، وتصاعدت شعبيته إلى حد اضطر معه محمد رضا شاه أن يعينه رئيساً للوزراء.

وردت بريطانيا على تأميم إيران لمصالحها النفطية بالتوقف عن شرائه وسحبت موظفيها وخبراءها لينقص الإنتاج وتتعطل المنشآت والمصافي، وفي حينها كانت مصفاة عبادان أكبر مصفاة في العالم، وقادت بريطانيا حملة عالمية حشدت لها دبلوماسيها واقتصاديها لمقاطعة النفط الإيراني ونجحت في ألا يشتري أحد غيرها النفط الإيراني.

وعلى صعيد آخر قامت بريطانيا بحثِّ محمد رضا شاه على التخلص من مصدق، وقدمت له كل ما يحتاجه من تأييد مادي ومعنوي، وكانت النخبة الثرية في إيران تكره مصدق لنزاهته وسياساته الوطنية واهتمامه بالطبقات الشعبية والفقيرة، وبلغت الأزمة ذروتها بعد سنتين ونصف من التأميم حين أخذت الأزمة الاقتصادية بخناق البلاد والعباد، فأقدم الشاه على عزل مصدق في أواخر سنة 1953، ولكن التأييد الشعبي لمصدق كان أكبر من أي تقدير، وملأت الجماهير الشوارع تطالب بعودة مصدق وعزل الشاه، ورفض الجيش التدخل ضد المتظاهرين، فدب الذعر في قلب الشاه وغادر البلاد، وعاد مصدق لإدارة البلاد رئيساً للوزراء.

ولم تمض أيام حتى قامت المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع البريطانيين في تدبير انقلاب أطاح بمصدق ومكّن الشاه من العودة إلى إيران، وحكم على مصدق بالسجن 3 سنوات ثم قضى حياته بعدها تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته عن 87 سنة في سنة 1967.

وذلك فصل من تاريخ إيران ما زلنا نشهد ذيوله إلى اليوم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين