من لم يسأل الإمارةَ أعانه اللهُ تعالى

روى البخاريُّ 9/63 برقم 7146، ومسلم 3/1456، عن عبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبدَ الرحمن، لا تسأل الإمارةَ، فإنَّك إن أُعطيتَها عن مسألة وُكِلَت إليها، وإن أعطيتَها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيتَ غيرَها خيراً منها فكفِّرْ يمينك وأتِ الذي هو خير.

المعنى: 

في هذا الحديث فِكرتان:

الفكرةُ الأولى: تختصُّ بالإمارة، وطلبها والتشوُّق إليها والتطلُّع للحصول عليها.

والفكرة الثانية: الحَلْفُ على شيء ثم يبدو شيءٌ آخر أفضل منه.

أما الفكرة الأولى فالرسول صلوات الله عليه يريد أن يكون الفرد من أمَّته، مُهذَّب النفس بعيداً عن الغرور والعُجْب فلا تجذبه الدنيا بغرورها، ولا تسحره بفتنتها، فلا يتطلَّع إلى ولاية الحكم ولا يحرص على الإمارة إلا إذا عُرضت عليه من غيرِ طلب، وأسندت إليه من غيرِ سؤال، فإنَّه صلوات الله عليه قد وَصَفها في قوله فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنَّكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامةً يومَ القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة) البخاري 9/63 برقم 7148 والنسائي 7/194 برقم 7788

قال ابن حجر: يُريد صلى الله عليه وآله وسلم أنَّها نعمت المرضعة في الدنيا، وبئست الفاطمة أي: بعد الموت؛ لأنَّه يَصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يُفطم قبل أن يَستغني فيكون في ذلك هلاكه، أو أنها نعمة المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره، وما يترتَّب عليها من التبعات في الآخرة.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا وَجد رجلاً حريصاً على الولاية مُولعاً بها، وسألها لم يولِّه إياها.

روى البخاري 9/64 برقم 7149 عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا ورجلان من قومي فقال أحد الرجلين: أمِّرنا يا رسول الله،، وقال الآخر مثله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنَّا لا نولِّي هذا من سأله ولا من حَرِص عليه).

قال القسطلاني في شرحه للبخاري: إنَّ في هذا الحديث كراهة سؤال الإمارة والحرص عليها، ومنع الحريص منها لأنَّ فيه تهمة أن يوكل إليها، ولا يُعان عليها، فينجرَّ إلى تضييع الحقوق بعجزه.

قال المهلَّب (كتاب الخلافة، طالب الولاية لا يولى ص 43): الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سُفكت الدماء، واستبيحت الأموال وعظم الفساد في الأرض بذلك.

وروى مسلم في صحيحه 3/1457 برقم 1825عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله ألا تستعملني – أي: تجعلني عاملاً ووالياً – قال: (إنَّك ضعيف؛ وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها).

قال النووي: هذا أصلٌ عظيم في اجتناب الولاية ولاسيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حقِّ من دخل فيها بغير أهليَّة ولم يعدل فإنَّه يندم على ما فرَّط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلاً وعدل فيه فأجرُه عظيم.

وفي حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وُكِل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله له مَلَكاً يُسدِّدُه).

قال في فتح الباري: وفي معنى الإكراه أن يدعى إليه فلا يَرى نفسَه أهلاً لذلك هيبة له، وخوفاً من الوقوع في المحذور، فإنَّه يُعان عليه إذا دخل فيه ويُسدَّد، والأصل في ذلك: أنَّ من تواضع لله رفعه.

فلا عجب إذن إذا رأينا نفراً من عباد الله الصالحين رفضوا القضاء وأبَوا الإمارة لما يحفُّ بها من أخطار، فقد جاء في كتاب المناقب: أنَّ أبا جعفر حبس أبا حنيفة رضي الله عنه على أن يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة فأبى، حتى ضُرب مائة وعشرة أسواط، وأخرج من السجن على أن يَلزم الباب، وطلب إليه أن يُفتي فيما يُرفع إليه من الأحكام، وكان يرسل إليه المسائل وكان لا يفتي، فأمر أن يُعاد إلى السجن فأعيد وغُلظ عليه وضيِّق تضييقاً شديداً.

وجاء في تاريخ بغداد عن الربيع بن يونس قال: 

رأيتُ أميرَ المؤمنين يُنازل أبا حنيفة في أمر القضاء، وهو يقول: اتَّقِ الله ولا ترعْ أمانتك إلا من يخافُ الله، والله ما أنا بمأمون الرضا فكيف أكون مأمونَ الغضب، ولو اتجه الحكم عليك ثم هدَّدتَني أن تُغرقني في الفُرات أو أن أَلي الحكمَ لاخترتُ أن أغرق، لك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك فلا أصلح لذلك، فقال له: كذبت، أنت تصلح، فقال: قد حكمتَ على نفسك، كيف يحلُّ لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذَّاب.

وإنما رَفَضَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى القضاء، لأنَّه رآه عملاً خطيراً ربما لا تقوى نفسه على احتماله، ولا يَقْوى ضميره على تحمُّل تبعاته، ولا تقوى إرادته على ضبط نفسه عن أهوائها في الأمور التي تَكتنف منصبَه، ولا يقوى على تنفيذ الحقِّ في كل الناس، فهو يَرَى في القضاء محنةً تسهلُ دونها كل محنة.

ومجمل معنى الحديث كما جاء في فتح الباري: إنَّ من المعلوم أنَّ كلَّ ولاية لا تخلو من المشقَّة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورَّط فيما دخل فيه، وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرَّض للطلب أصلاً، بل إذا كان كامناً وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة، أما من وُكل إلى نفسه فقد هلك.

هذا هو هدف الفكرة الأولى في الحديث.

أما الفكرة الثانية: فالغرض منها أنَّ من حَلَفَ يميناً على الامتناعِ عن أمرٍ ثم ظهر له ما هو خير منه في باب المصلحة والنفع العام، فعليه أن يأتي ما هو خير ثم يكفِّر عن يمينه، وهذا المعنى هو الذي نزلت فيه الآية الكريمة: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224].

روى ابن جرير أنَّ سبب نزول هذه الآية هو حَلف أبي بكر رضي الله عنه على ترك الإنفاق على مِسْطح رضي الله عنه، بعد أن خاض في قصَّة الإفك، وذلك أنَّ الإنسان يسرع إلى لسانه الحلف أنَّه لا يفعل كذا، وقد يكون خيراً وليفعلنَّ كذا وقد يكون شراً، والله تعالى لا يرضى بأن يكون اسمه حجاباً دون الخير، أو وسلية للشر، فنهى عن ذلك وأمر نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب تحرِّي الخير، وإن حلف على غيره فليكفِّر عن يمينه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام)، العدد الأول من السنة الثانية عشر 1377هـ=1958م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين