مختصر في الخروج على ولاة الجور

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد استفاض في الآثار عن المعصوم صلوات الله عليه وآله، النهي عن الخروج على ولاة الجور، والأمر بالصبر عليهم، وهذه الآثار مشهورة ولكثرتـها وكونـها الأصل في المسألة يُردّ ما يشتبه ويوهم من النصوص إليها، فإن المتشابه يرد إلى المحكم، والمجمل إلى المفصل.

ولهذا قال الإمام أحمد في الحديث الذي أخرجاه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يهلك أمتي هذا الحي من قريش) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: (لو أن الناس اعتزلوهم).

فرده الإمام أحمد إلى المحكم وهو النهي، وأمر بالضرب عليه وإخراجه من (المسند) بعلة مخالفة الأصول، فإنه ساق هذا الحديث في (المسند) ثم حكى ابنه عبد الله عنه أنه قال في مرضه الذي مات فيه: (اضرب على هذا الحديث فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) قال عبد الله: يعني قوله (اسمعوا وأطيعوا واصبروا).

وهذا مبني على أن معنى الاعتزال هو تنحيتهم بالخروج عليهم، فيكون مخالفا لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر بالصبر على جور الولاة وظلم الحكام الطغاة، إلا إذا منعوا الصلاة أو كفروا كفراً بواحاً صراحاً لا يحتمل التأويل، أو حملوا الناس عليه، مع القدرة على إزالتهم والمكنة من إزاحتهم.

وقد حكى أبو محمد بن حزم في (إجماعاته) عن أبي عبد الله بن مجاهد شيخ المتكلمين أنه حكى الإجماع على ألا يخرج على أئمة الجور، فاستعظم ابن حزم هذا منه وتعقبه بأنه قد عُلم أن أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن اتبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً .. وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم.

قال: (ولعمري لو كان اختلافاً يخفى لعذرناه، ولكنه أمر مشهور يعرفه أكثر العوام في الأسواق والمخدرات في خدورهن لاشتهاره).

وقد خفي هذا على كثير من المشتغلين بالعلم في هذه الأعصار، فأطلقوا الإجماع فيها على المنع، وفسَّقوا أو كفَّروا من خالفهم فيها، أو نبزوهم بنبز الخوارج، كما أن من خرج أو دعا إلى الخروج فإنه يرمي من لم يتابعه على رأيه فضلا عمن خالفه بالإرجاء ونحوه من ألقاب السوء التي وصم بـها أهل البدع، وحصل بسبب ذلك فتن ومحن، وكلا الفريقين على طرفي نقيض، قد غلا في مذهبه، والله المستعان. 

والصحيح أن الاعتزال في هذا الحديث، ليس هو الخروج على أئمة الجور بالسيف وتنحيتهم، لأن هذا إنما يقال فيه: عزل، فأما اعتزل: فمعناه أنه هو الذي يتنحى عنهم، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾ [الدخان:21] أي لا تكونوا عليّ ولا معي. 

وهذا هو المراد بالحديث، قال القاضي عياض: (في هذا الحديث الحجة على ترك القيام على أمراء الجور، إذ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحال هؤلاء، ولم يأمر بالقيام عليهم ولا محاربتهم).

وقال الداوودي: (الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر). 

فهذا الحديث موافق لما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر بالصبر وترك الخروج، وردّه بهذه العلة غير متجه، وقد يكون مراد الإمام أحمد أن التنحي عنهم واعتزالهم مخالف للأمر بمناصحتهم والجهاد معهم والصلاة خلفهم وإنفاذ الأحكام وإقامة الشعائر والفروض الكفائية التي تتعطل مصالح الدين والدنيا بتركها، فاعتزالهم على العموم لا يخلو من مفسدة، فهذا إن صح لا يستدعي ردّ الحديث بالمخالفة، فيمكن تخصيصه بمن لا يصبر أو بحمل الاعتزال على ترك مخالطتهم، وقد عُلم من حال السلف اعتزال ولاة الجور، وترك الدخول عليهم إلا لنصيحتهم أو للسعي في مصالح العامة، فلا يكون معهم في المنكر والظلم، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾[هود:113].

ومن اعتزالهم أن تترك الخروج عليهم إلا بالشروط المتقدمة، وتصبر فإن الصبر عاقبته حميدة، ولهذا ذكره الله تعالى في كتابه تسعين مرة كما قال الإمام أحمد، وقد قال الحسن البصري وكان ممن خرج في فتنة ابن الأشعث على الحجاج، قال: (والله لو أن الناس صبروا على جور السلطان لأوشك أن ينزل الفرج من الله تعالى، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه)، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ [الأعراف:137].

وقيل للإمام مالك وكان نهى الناس عن الخروج مع من خرج على أبي جعفر المنصور من العلويين مع إقراره بأنـهم أحق بالأمر لكنه كره للعامة أن يفسد أمرهم، فقال بعض الغلاة: هم خوارج يا أبا عبد الله، فقال: (سبحان الله، خوارج! لو خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز) وكان قد خرج معه بعض الفقهاء والعلماء كهشيم بن بشير الواسطي وعباد بن العوام ويزيد بن هارون وغيرهم، وكان أبو حنيفة يأمر بالخروج.

وخرج مع الحسن البصري في فتنة ابن الأشعث على الحجاج، كبار العلماء من التابعين مثل: سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومسلم بن يسار وأخوه سليمان وعامر بن شراحيل الشعبي، وكان يقول يستنهض الناس للقتال: (قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة) ومنهم: أبو الجوزاء الربعي وعبد الله بن شداد وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومالك بن دينار وعطاء بن السائب وغيرهم، قال أيوب السختياني: (ما منهم من أحد صرع مع ابن الأشعث إلا رغب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلمه).

وخرج الإمام زيد بن علي عليهما السلام وهو من علماء التابعين وساداتـهم، على هشام ومعه أفاضل الناس ومن شيعته من نصحه بترك الخروج كسلمة بن كهيل الحضرمي وهو شيعي عارض خروج زيد وذكر له أن أهل الكوفة يخذلونه، فلما أصر زيد عليه السلام على الخروج اعتذر عن الخروج معه واستأذنه في الاعتزال فأذن له، وخرج بعده ولده يحيى فقُتل، ومن الخارجين من ينجح الله مقصده كعبد الرحمن الداخل والإمام إدريس وغيرهما.

وبكل حال فترك الخروج ولزوم الصبر أسلم وأولى في الجملة لأنه الأصل إلا حيث ينتقل عن الأصل لبرهان ظاهر، ولهذا لم يوافق أحد من الصحابة كابن عباس وابن عمر وغيرهما من علماء الصحابة كأبي سعيد وغيره، ابنَ الزبير رضي الله عنه على ما صنع، وكانوا ينصحون الحسين عليه السلام بالصبر، وينصحونـهما أن يدخلا فيما دخل الناس فيه من البيعة ليزيد، مع علمهم بأن ما يدعون إليه حق، وأن يزيد بن معاوية فيه من الفسق والظلم ما يستوجب خلعه، فإن للعلماء فيه قولين هما روايتان عن أحمد: إحداهما: التوقف في حاله فهم يقولون: اذكر يزيد ولا تزيد، فلا يحب ولا يوالى، كما يفعله من يفعله من غلاة الشاميين النواصب، ولا يسب ويلعن كما يفعله غلاة الشيعة من أهل العراق وغيرهم. 

وعن أحمد رواية: يستحق اللعن، وهي مسألة مشهورة جرت بين أبي الفرج بن الجوزي وبين عبد المغيث الحربي وكلاهما حنبلي، فصنف الأخير (فضائل يزيد) تعصباً.!

قال الذهبي: (أتى فيه بعجائب وأوآبد لو لم يؤلفه لكان خيرا له...قال: ولعبد المغيث غلطات تدل على قلة علمه) وصنف ابن الجوزي في بيان ظلمه وفسقه ولعنه، وما سبق أصح كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا لأنهم يعلمون أن في الخروج من المفاسد وسفك الدماء ما يبغضه الشارع الحكيم وينهى عنه.

والمقصود أنه لا يجوز أن ينسب من خرج إلى رأي الخوارج، ولا من لم يخرج إلى بدعة الإرجاء، وكلاهما ظلم في الحكم وجهل، كما أن الواجب على الناس لزوم العلماء الكبار وترك الاغترار بدعاوى كل ناعق، كما أشار إليه الإمام الرباني سفيان الثوري بقوله: (إذا مر المهدي ببابك فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع عليه الناس).

وصح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (البركة مع أكابركم) وفي رواية الرافعي في (أخبار قزوين) بلفظ: (البركة مع أكابركم أهل العلم). 

وقال ابن مسعود: (لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا). 

وقال الشعبي: (ما جاءك عن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخذه ودع عنك ما يقول هؤلاء الصعافقة). 

فهؤلاء العلماء الكبار هم من يقضي في هذه الدقائق وهي الإفتاء في مسائل الدماء وخلع الولاة والخروج عليهم بالسيف، بعد تحقق توافر الضوابط والشروط التي بينها الشارع في استباحة الخروج بالسيف لخلع ولاة الجور، فإن الأصل منعه لما تقدم من تغليب مصالح العامة في حفظ ما تنتظم به حياة الناس ويقوم به معاشهم وينتظم به حالهم ويستتم لهم أمر دينهم، ولهذا تواترت أحاديث النهي عن الخروج والأمر بالصبر تقريراً لهذا الأصل، وإذا تحقق فيهم ما يستدعي الخروج بالسيف أو خلعهم بالقوة أو غيرها، نُظر فإن أمكن إصلاحهم بالنصح والإرشاد فهو متعين، وإلا فإن أمكن بأي وسيلة يتحقق بـها خلعهم بحيث يكون ما يترتب على خلعهم من المفاسد أدنى وأخف من مفسدة بقاء ولايتهم فهو واجب، وإلا وجب الصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.

وليس الكفر ومنع الصلاة هو ما يوجب خلعه والخروج عليه، بل التنصيص على ذلك لا يقتضي التخصيص لأنه من التخصيص بموافق العام وهو ضعيف إلا بدليل، وإنما نص عليه لأنه أعظم ما يستوجب الخروج عليه، فيدخل في جملة العلل التي تقتضي نزع حكمه الظلم والجور كما مر عن أبي جعفر الداودي، وكذا والسفه والفسق لكن بالشروط المتقدمة التي ترجع إلى تغليب مصالح العامة، وقد حكى أبو جعفر الطبري في (التبصير) الإجماع على وجوب نصرة المظلوم وردع الظالم والانتصاف منه.

ولا بد من التنبيه على أن المظاهرات السلمية ليست من الخروج الذي ذمه الشارع ونـهى عنه، فإن الخروج لا يكون إلا بالسيف، وأما المظاهرات فهي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله عليه الصلاة والسلام في خبر النهي عن الجلوس في الطرقات: (أعطوا الطريق حقه) وذكر من حقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يدل على جواز البروز للطرقات لإنكار المنكر والأمر بالمعروف بشرط أن لا تكون هذه التظاهرات بحيث تفضي إلى إتلاف النفس والمال والعرض، لأنا إنما رخصنا فيها لتحقيق مقصد الشارع في رفع الظلم والمطالبة بالحقوق لقوله عليه الصلاة والسلام في استئثار الولاة بالحقوق: (تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم) ومن جملة سؤال الله الذي لنا، الاستعانة به في المطالبة بالحقوق، فإذا كانت المطالبة بالحقوق ورفع الظلم بحيث يفضي إلى نقيض مقصود الشارع من مصالح الإمامة في حفظ النفس والمال والعرض، فتركها والحال هذه ولزوم الصبر هو المتعين. 

وقد خرج أهل المدينة في مظاهرة لإبطال حكم القاضي بقتل والد قتل ولده وهو حكم ضد الحديث وكان مالك قد نازعه الحكم فلما تعنت القاضي على رأيه اعتزل مالك الناس حتى يحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج الناس لأجل ذلك.

وخرج أهل الحجاز واليمن بمصر لإبطال الحكم بتحريم القهوة ورفع الظلم عنهم في تكسير حوانيت القهوة من عوام المصريين الذين استخرجوا من ابن عبد الحق السنباطي فتيا في منع القهوة، فخرج الناس وشاعرهم يقول:

أهل مصر قد تعدوا ... والبلا منهم تأتى

حرموا القهوة ظلما ... زادهم ظلما ومقتا

إن طلبت النص قالوا ... ابن عبد الحق أفتى

وخرج أهل بغداد لإبطال حكم القاضي بقتل مسلم بكافر حتى قال الشاعر:

يا قاتل المسلم بالكافر ........ جرتَ وما العادل كالجائرِ

يا من ببغدادَ وأطرافها ........ من فقهاء الناس أو شاعرِ

جار على الدين أبو يوسف ......... بقتله السلمَ بالكافرِ

فاسترجعوا وابكوا على دينكم ... واصطبروا فالأجرُ للصابرِ

وقد ذكر الحافظ أن الخروج على ولاة الجور مذهب قديم للسلف، ومراده خروج من ذكرنا خروجه على ولاة الأمويين والعباسيين، وقد أخرج الإمام أحمد عن حذيفة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير وأسأله عن الشر، فقلت: هل بعد هذا الخير من شر كما كان قبله شر؟ قال: نعم، قلت: فما العصمة منه؟ قال: السيف.. الحديث.

وهو مخرج على ما مر بيانه من ضوابط الخروج، ولا يصح تعميمه كما لا يصح رده بدعوى عدم جريان العمل عليه، بل عمل به من ذكرنا من السلف على وفق ضوابط الشارع.

فمذهب السلف والأئمة في هذا الباب وسط بين مذهب الخوارج والروافض بجواز الخروج مطلقا، وبين مذهب المروانية النواصب في منع الخروج مطلقا ولزوم الطاعة المطلقة حتى إن منهم من يعتقد عصمة ولي الأمر كما حكى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الرد على ابن المطهر) قال: (ولما تولّى عمر بن عبد العزيز أظهر من السنة والعدل ما كان قد خفي، ثم مات، فطلب يزيدُ بن عبد الملك أن يسير سيرته، فجاء إليه عشرون شيخا من شيوخ الشيعة العثمانية، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبّل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات، حتى أمسك عن مثل طريقة عمر بن عبد العزيز، ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لـمُتولّي أمرهم، فإنـهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقا، وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته).

وهذا يتنزل في عصرنا هذا على الغلاة الذين يتبعون المداخلي فإن لسان حالهم يقوله وإن لم ينطق به لسان مقالهم.

والله الهادي إلى سواء السبيل

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين