الإنسان وثقافة العيب واللاعيب

لقد أودع الله عز وجل في الإنسان أكثر من قوة ليواجه به الخطأ من نفسه أو من غيره ، فهناك الدين ، وهناك الأخلاق ، وهناك القانون ، وهناك العيب .

فلا يفعل الخطأ أو الحرام لأنه إما مجرم دينياً ، أو يرفضه صاحب العقل السليم ، أو لأن الأذواق الصحيحة اتفقت على رفضه ، وهو ما يسمى بالعيب.

والعيب كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام ، فهذا عنترة العبسي كان يقول :

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها

وهذا أبو جهل بن هشام لما أفلت منه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ، قيل له : هلا اقتحمت على محمد داره قبل أن يفر ، فقال : أو تريدون أن تتحدث العرب أن عمرو هشام يعني نفسه قد روع وخوف بنات محمد.

كان يخاف من كلام الناس عنه وحديثهم فيه ووصمهم إياه بما يعيبه من فعل.

وهذا سيدنا أبو سفيان رضي الله عنه تحدث عن رحلته إلى الشام أثناء صلح الحديبية ، وفيها أن هرقل قال لحاشيته: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ليسأله بعض الأسئلة عن ذاك النبي الذي ظهر بينهم ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. قال سيدنا أبو سفيان : فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثر علي أصحابي من قريش كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.

وهذا السموأل بن عاديا ... رجل عربي يهودي .. يضرب به المثل في الوفاء ، وكان من وفائه أن امرأ القَيْس لما أراد الخُرُوجَ إلى قيصر اسْتَوْدَعَ السموألَ دُرُوعاً ، فلما مات امرؤ القيس غَزَاه ملك من ملوك الشأم، فتحصن منه السموأل، فأخذ الملك ابناً له، وكان خارجاً من الحِصْنِ، فصاح الملك بالسموأل، فأشرف عليه، فَقَالَ: هذا ابنُك في يَدَيَّ، وقد علمتَ أن امرأ القيس ابن عمي ومن عشيرتي، وأنا أحقُّ بميراثه؛ فإن دفَعْتَ إلي الدروع وإلاَ ذَبَحْتُ ابنك، فَقَالَ: أجِّلْني، فأجله، فَجَمعَ أهلَ بيته ونساءه، فشاوَرَهم، فكُلٌّ أشار عليه أن يدفع الدروع ويستنقذ ابنه، فلما أصبح أشْرَفَ عليه وقَالَ: ليس إلى دَفْعِ الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع، فذبَحَ الملكُ ابنه وهو مُشْرِف ينظر إليه، ثم انصرف الملك بالخيبة، فوافى السموألُ بالدروع الموسمَ فدفعها إلى ورثة امرئ القيس، وقَالَ في ذلك:

وفَيْتُ بأدْرُعِ الكِنْدِيِّ إني ... إذا ما خَانَ أقْوَام وَفِيْتُ

وَقَالَوا: إنه كَنْزٌ رَغِيبٌ، ... وَلاَ وَالله أغْدِرُ مَا مَشَيْتُ

لم يغدر ؛ لأن الغدر عيب ، وضحى بابنه كي لا يُسب بالغدر ، وهو القائل :

إذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ *** فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ

وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها*** فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ

هكذا كان العرب وكانت حالهم ... للعيب في قاموسهم وجود ... فلما جاء الإسلام اعتمد ثقافة العيب السائدة حينها ، وكملها بثقافة الحرام والمكروه ، فالمسلم يمتنع من الأمر المشين لأنه حرام أو مكروه، وإلا فهو عيب أو من خوارم المروءة .

إلا أن ثقافة العيب اليوم صارت ضحلة ... ضعيفة ... متهالكة ... ميتة سريرياً ... فلم يعد بعض الناس يعبأ بالعيب فضلاً عن الحرام ...

صار يعتبر ممارسة الخطأ وارتكاب الأمر المعيب حرية شخصية ...

صار التعبير عن الميولات والرغبات الخاطئة قراراً سيادياً بامتياز ...

صار اقتحام لجج الأمر المقزز أو المخجل مهارة شخصية وبراعة ذاتية ...

وصارت الوقاحة حمى خاصاً لا يضام ، بنقد أو إعابة أو استفهام.

اليوم صار طبيعياً جداً أن يعبر الشاذ عن ميولاته الجنسية في بعض البلاد الإسلامية ...

صار من الطبيعي أن يطالب المخطئون بحقوقهم المدنية المزعومة...

صار من الطبيعي أن تبرز المرأة مفاتنها وتعرض محاسنها لأنها نصف المجتمع وند للرجل في كل شيء...

صار من الطبيعي أن يحارب الله ورسوله ودينه بحجة أنه يجب إعادة النظر في الموروثات الدينية .

صار طبيعياً أن يخرج الشاب بسروال قصير ليمارس الرياضة أو يدخل الجمعية أو دائرة حكومية ... ثم ما عليك إلا أن تسكت لأن هذا الذي يفعل أمامك قرار مزاجي.

صار طبيعيا ًأن يرفع الشاب صوت المذياع من غرفته أو سيارته ليسمع الآخرين كل نغمة هابطة مائعة ... شرقية أو غربية .

صار طبيعياً أن تجلس في مطعم ... وإلى جانبك شباب لا يراعون أبسط مقومات الأدب ... فالأصوات مرتفعة ... إن لم تكن أصواتهم فأصوات مقاطع الفيديو التي يتبادلونها فيما بينهم.

صار من الطبيعي أن يعاكس الشاب البنات في الشارع العام ... باسم الحب والغرام ... ثم لا ينبغي أن يلام .

أمور يضحك الجهال منها ويبكي من عواقبها اللبيب

أيها القراء والكَتَبة ...

إنها لقضية خطيرة ومأساوية .. عندما تُرفع ثقافة العيب من المجتمع لتحل بدلاً منها ثقافة اللاعيب ... اللاحرج ... اللابأس .

إنه لأمر مخيف أن ترتسخ في الأوساط الاجتماعية لغة الانحلال ... الترهل ... التآكل ....تآكل القيم ... تآكل الأخلاق ... تآكل العادات السليمة ... تآكل الثوابت وإدبارها إلى غير رجعة. 

إن منشأ هذه الثقافة ينطلق من التساهل بارتكاب الأمر المعيب مما سيودي لاحقاً إلى ارتكاب الحرام ... وإن عدم الاكتراث بما ينبو عنه الذوق السليم ويرفضه العقل القويم سيوقع فيما هو أعظم منه بحجة أنه لا بأس به وليس بحرام ... ما الذي ومن الذي جعل منه حراماً.

إن ثقافة العيب أيها السادة ينبغي أن تنطلق من الأسرة وتزرع من قبل الأبوين ويذكر بها الأولاد بين الفينة والأخرى ، ويرعاها المجتمع ، ويحشد لها الإعلام أجهزته ، ويردع القانون كل من يتسور عليها .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين