من رآني في المنام فقد رآني حقاً

روى البخاري 9/33برقم 6993، ومسلم 4/1775برقم 2266، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثَّلُ الشيطانُ بي).

فقه الحديث:

من رآني في المنام في صورتي (فسيراني في اليقظة).

جاء في رواية مسلم: (فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة).

وفي رواية للبخاري: (فقد رأى الحقَّ) وقوله: (ولا يتمثل الشيطان بي) أي: لا يتشبَّه بصورتي، فإنَّ الشيطان لا يتخيَّل بي.

وفي حديث الترمذي: (إنَّ الشيطان لا يستطيع أن يتمثَّل بي)، أي: أنَّ الله تعالى – وإن مكَّنه في أي صورة أراد – لا يمكنه من التصوُّر في صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد حكى القاضي عياض عن بعضهم ما به يتبيَّن السرَّ في ذلك قال: خصَّ الله تعالى نبيَّه بعموم رؤياه كلها، ومنع الشيطان أن يتصوَّر في صورته صلى الله عليه وآله وسلم، لئلا يتذرَّع بالكذب على لسانه في النوم.

ولقد خَرَق اللهُ العادة للأنبياء للدلالة على صِحَّة حالهم في اليقظة، واستحالة تصوُّر الشيطان على صورة نبي في اليقظة، خشية أن يدخل اللبس بين الحق والباطل، فإنَّ الأنبياء حمى يحميه الله تعالى من الشيطان وتصوُّرِه وإلقائه وكيده، وكذلك حمى رؤياهم أنفسهم.

وإنَّ الذي يرى الرسول صلوات الله عليه في المنام على صورته المعروفة، فقد رأى حقيقته التي لا يختلف فيها حالُ راءٍ عن آخر، فلا نحتاج إلى تأويل وتعبير لظهور دلالتها على صفاء نفس الرائي وحسن حاله.

وأما من رآه على غير حالته المعلومة فقد رأى منه مثالاً يرشد إلى حالة في الرائي تختلف باختلاف الأشخاص، فلذلك نحتاجُ إلى تأويل وتعبير، لأنها إما بشرى بخير أو إنذار بشر، إما ليزجر عنه وإما لينبَّه على حكم يقع له في دينه أو دنياه.

ورؤيا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فيها اطمئنان للقلب كمن رآه في اليقظة، وهي دليل على صلاح الرائي وكمال خلقه، هذا إذا رآه على حاله وهيئته صلوات الله عليه.

أما إذا رآه مُتغيِّر الحال عابساً مثلاً فذلك دالٌّ على سوءِ حالِ الرائي. وحكى ابن أبي جَمْرة عن بعضهم: أنَّ من رآه في صورة حسنة فذاك حُسْنٌ في دِين الرائي.

ومن رأى في جارحةٍ من جوارحه شيئاً أو نَقْصاً فذاك خَلل في الرائي من جِهَة الدين.

قال: وهذا هو الحقُّ، وبه تحصُل الفائدة الكبرى في رؤياه صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يتبيَّن للرائي أعنده خَلل أم لا؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم نوراني كالمرآة الصقيلة يَتَصوَّر فيها ما في الناظر من حسن أو غيره، وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقصَ فيها ولا شَين.

وكذلك يُقال في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم في النَّوم أنَّه يُعرض على سُنَّتِه فما وافقها فهو حَقٌّ وما خالفها فالخلل في سمع الرائي.

قال في المصابيح: رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فيها بشارة لرائيه بأنه يموت على الإسلام، وكفى بها بشارة؛ لأنَّ من رآه صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا في المنام سيراه يوم القيامة رؤية خاصَّة في القُرْب منه، ولا يكون ذلك إلا لمن تحقَّقت منه الوفاة على الإسلام.

وفيها أيضاً دلالة على صدق الرائي في محبَّته فوصل بذلك إلى مُشاهدته، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الأرواحُ جنودٌ مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (رؤيا المؤمنِ جُزءٌ من سِتَّة وأربعين جزءاً من النبوَّة).

ولكن هنا سؤال: هل جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام مثله عليه السلام في أنَّ الشيطان لا يتمثَّل على صورهم؟ أو هذا خاصٌّ به صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين؟

نقول: ليس في هذا الحديث ما يدلُّ على الخصوص قطعاً ولا على العموم قطعاً، ولا هذه الأمور مما تُؤخذ بالقياس ولا بالعقل.

وما يُعلم من علو مكانتهم عند الله تعالى يشعر أنَّ العناية تعمُّهم، فإنَّهم صلوات الله عليهم أجمعين أتَوا إلى إزالة الشيطان وخزيه، فأشعر ذلك أنَّ الشيطان لا يتمثَّل بصورهم المباركة، كما أخبر عليه السلام في كرامته وكرامتهم: أنَّ أجسادهم على الأرض حرام حتى تخرجهم كما جعلوا فيها، كذلك تساويهم في هذه الكرامة.

وفي الحديث دليلٌ على عظيمِ قُدرة الله تعالى: كيف جعل للشيطان القدرة على أن يتصوَّر في أي صورة شاء ويتشبَّه بمن شاء، يؤخذ ذلك من قوله عليه السلام: (ولا يتمثَّل الشيطان بي).

فدلَّ على أنَّه يتمثَّل بغيره، ومثل ذلك جاء عن الملائكة أنَّ الله عزَّ وجل أعطاهم التصوير يتمثَّلون على أي صورة شاءوا.

فانظر إلى حالة ما بين الملائكة وحالة الشياطين وقد أعطيا معاً هذه الحالة العجيبة، فمن أجل هذا لم يَلتفت أهل التوفيق إلى الكرامات بخرْق العادة، وطلبوا التوفيق لما به أمروا، ولطف الله تعالى بهم في الدنيا والآخرة؛ لأنَّ خَرْق العادة قد يكون للصديق والزنديق، وهي للزنديق من طريق الإملاء والاستدراج، وإنما تقع التفرقة بينهما ما هو منها كرامة أو إملاء واستدراج بالاتباع للكتاب والسنة.

قال ابن القيم في كتابه المسمى (كتاب الروح): الرؤيا على ثلاثة أنواع: رؤيا من الله تعالى، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا من حديث النفس.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام)، العدد الأول، السنة 15، 1380هـ =1961م .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين