علماء ومصنفات أشرقت من غرفات عتيقة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وبعد:

قال تعالى: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11]. فالعالم لا يقاس علمه بما يملك من ثروة أو مال، ولا يستحقّ مكانته العلمية بما يتولّاه من منصب أو جاه، فلا هذا يرفعه ولا ذاك يمدحه، ولكن قيمته بقدر علمه الغزير، ومعرفته الواسعة، وكبير اطلاعه العميق على الكتب بخطيها والمخطوط وفي سائر العلوم والفنون..، هذه هي قيمته الحقيقية، بل هي التي تحفظ رتبته وتضمن مكانته، حتى ولو كان أفقر الناس وأكثرهم إملاقاً، بأن لزمه الفقر وعشّش معه وفرّخ، وصدق القائل:

إنَّ الفقيه هو الفقير وإنما .... راء الفقير تجمعت أطرافها

والغالب أنّ الفقر – في أكثر الأحيان - ملازم لهؤلاء العلماء في مسكنهم ومنزلهم، بل إن الفقر يخبرهم: بأنه جليسهم الذي لا يفارقهم، وأنيسهم الذي لا يملّهم، وقرينهم الذي لا يبارحهم أبداً! بل هو مؤاخيهم ومصادقهم! كما قال الشاعر:

قلت للفقر أين أنت مقيم .... قال لي: بين عمائم الفقهاء

إن بيني وبينهم لإخاءٌ .... وعزيز علي قطع الإخاء

حتى أنّ بعضهم - لشدّة فقره - كان يسكن بيتاً عتيقاً، بل غرفة قديمة بالية، أركانها ضعيفة وجدرانها نحيفة، وقد أوشكت حيطانها غير المصفحة – والتي هي من الطوب لا الصخور – على السقوط لكثرة الشروخ والشقوق، وهي أصلاً غير مضروبة بالطلاء ولكنها مبنية بالكتب التي يطالعا وهي لا تحصى.

وقد لا يستره فيها عن الثرى غير حصيرة ممزّقة بالية، وهي على قدمها فقد أبلاها الدّهر، كما يقول الشاعر:

تعاورتما حتى القديمة منكما ... جديد وقد أبلي قديمتها الدهر

مستغنياً عنها بفرش المخطوطات وبسط الرسائل والدواوين والمجلّدات المفتوحة لينقل منها. وقد استغنى بها عن الدنيا!

وإذا سألت عن ضيوفها؟ فهما صنفان:

الأول: ضيوف مرغوبة وهي الكتب التي يجلس إليها ويأنس بها.

والآخر: ضيوف مملة ممقوتة وهي البَقّ – البعوضة – ودوابّ الأرض ونحوها.

ثم شرفتها لا تدفع حرّاً ولا تردّ برداً، وكذا بابها لا يمنع خطراً سابحاً ولا سبعاً جائعا.

وأما مصباحها، يكاد ألا ينير نفسه فهو هافت قديم لا يدفع ظلمة، ولا يطرد وحشة، ولكن نور العلم والإيمان ورضى النفس يغنيان عن هذه الظلمة الموحشة.

وفضلاً عن هذا وذاك فهي لا تصلح لنوم ولا لراحة، فضلاً عن المطالعة أو التدوين والكتابة.

ثم هي - بعد ذلك كله - قد تكون بالكرى لا ملكا له! كما يقول الشاعر:

وعالم يسكن بيتاً بالكرى .... وجاهل يملك دوراً وقرى

لما قرأت قوله سبحانه .... نحن قسمنا بينهم زال المرى

ومع هذا لم تفتر لهم مع الفقر عزيمة ولا شكيمة، ولم تعرف همتهم الخمول ولا الكسل، بل كانت فيهم الروح الوثّابة، التي لا تطلب إلا الشذا، ولا ترضى إلا بالندا.

وحديثي في هذه المقالة يتناول ذكر بعض أخبار العلماء الذين لزمهم الفقر وهزّهم الإملاق وعركهم الجوع والعطش وقلة ذات اليد، وسكنوا هذه الغرف العتيقة.. إلا أنهم على ما بهم من فقر وإملاق قد دوّ ذكرهم الآفاق، واشتهرت أسماؤهم وانتشرت مؤلفاتهم، انتشار النار في الهشيم، بحيث لا يغيب ذكرهم عن مجلس، ولا يهضم حقهم منصف، ويلمّ بأخبارهم العالم الكبير، وطالب العلم الصغير، فهم محلّ احترام وتقدير، ولا يعرف لهم نكير، أو إعراض أو اعتراض، أو انتقاد أو انتقاض، بل مسلّم لهم الإمامة والصدارة والزعامة في العلم والمكانة ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولن أذكر - في مقالي هذا - رجالاً من السلف الأولين، فأخبارهم قد دونت وعرفت، وهي أشهر من أن تذكر أو تنشر، ولكن أعرض - في حديثي معكم - أخبارَ أناس عاصرناهم، وعايشنا من عايشهم، وربما عايشنا بعضهم بأنفسنا، وجلسنا بين أيديهم، ننظر إليهم، ونتعلّم منهم. حيث خرجت من تحت أيديهم علوم نافعة، ومؤلفات نادرة، نفاخر بها الأوائل، ونباهي بها العصور الغوابر.

(...) - فهذا العلامة اللغوي الأديب السيد بن علي المرصفي الأزهري (المتوفى سنة 1349)، فقد كان رحمه الله كثير العناية بكتاب "الكامل" للمبرد، دائم النظر فيه، والتدريس له في الأزهر أو البيت، إلى أن شرحه شرحاً نفيساً وسمّاه " رغبة الآمل من كتاب الكامل".

يقول العلامة علي الطنطاوي – كما في كتاب "فصول في الثقافة والأدب" (ص96): "ولقد حدّث أحد تلاميذه أنه دخل عليه يوماً - وكان يسكن غرفة مقفرة من دار خَرِبة في حي قديم من أحياء القاهرة، يضلّ الماشي في أزقّته ويغوص في وحله، لأنه كان من فقره لا يستطيع أن يجد غير هذه الدار في غير هذا الحي – فوجده قاعداً على حصير بال مفروش في وسط الغرفة ليس فيها سواه، وأمامه الكتب منثورة والصحائف منشورة، وحول الحصير خيط من الدّبس مصبوب على الأرض. فسأله ما هذا الدّبس يا مولانا؟ فضحك الشيخ وقال: إنه سور يحميني من هجمات البَقّ!".[قال في تاج العروس: البقَّةُ: البَعُوضة، وقيل: العظيمة منها، والجمع: البَقّ، وهي: دُوَيْبة مفرطَحَة مثل القَمْلة حمراء مُنْتِنة الرّيح، تكون في السُّرُر، وفي الجُدُر، وهي التي يقال لها: بنات الحَصِير، إِذا قتلْتَها شَمِمْت لها رائحة اللّوز المرّ]. يقال: إنه يتولد من النَّفَسِ الحار، ولشدة رغبته في الإنسان لا يتمالك إذا شم رائحته إلا رمى نفسه عليه، وهو بمصر كثير وما شاكلها من البلاد.

قلت: ومن هذا المكان وهذه الغرفة وعلى هذه الحالة خرج كتابه العظيم "رغبة الآمل من كتاب الكامل" في ثمانية أجزاء، وقد قال في حق هذا الكتاب العلامة علي الطنطاوي: "في هذه الغرفة العارية، على هذه القطعة من الحصير، ألّف الشيخ كتابه العظيم "شرح الكامل للمبرد"، هذا الكتاب من الكتب التي يفاخر بها عصرنا العصور الخوالي، لهذا العالم الذي ينافس بأمثاله القرون الماضيات!". كما في كتاب "فصول في الثقافة والأدب" (ص97).

وقال الأستاذ العلامة محمد رجب البيومي في ترجمته في كتابه "النهضة الإسلامية" (1/281): "عكف على شرح الكامل وتدريسه، فقطع زهرة شبابه في تفهّم أسراره، واكتناه مراميه، وجاء شرحه الفخم في أجزائه الثمانية دليلاً ملموساً، على أنّ المبرّد قد عاد إلى الحياة مرّة أخرى بالأزهر، واستبدل القاهرة بحاضِرَة العباسيين!".

(...) - وهذا الشيخ المفسر الفقيه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، (المولود سنة 1307، والمتوفى سنة 1376): كانت أوقاته مليئة بالقراءة، والكتابة والتأليف، والعلم والتعليم والفتوى..، وكان له مكان - طيني منعزل مساحته صغيرة تقع في متر ونصف طولاً ومثل ذلك عرضاً، يوجد فيه بساط ومتكأ يتكئ عليه - بأعلى درج المنزل يجلس فيه للقراءة والكتابة والتأليف!:

يقول حفيده الأستاذ مساعد السعدي: "وقد روت لي الوالدة – حفظها الله – وهي تتذكر تلك الأيام التي يجلس فيها والدها الشيخ رحمه الله في ذلك المكان الضيق الطيني الذي خرج منه المؤلفات العظيمة – أنها كانت تراه معظم أوقاته والقلم بيده، والدفاتر والأوراق بجانبه. وتتذكر أنه كان يجاذبها الحديث، ويده تكتب!، فلا يمل من الكتابة ولا التأليف!".

ومن مؤلفاته العظيمة التي خرجت من هذه الحجرة الصغيرة المتواضعة خرج تفسيره الشهير المسمّى "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، قال عنه الدكتور بكر أبو زيد: "فإني لا أعلم في النجديين من له تفسير كامل لكتاب الله تعالى بهذا السبك والجودة، فقد قضى الشيخ رحمه الله تعالى الدَّين عن من قبلَه، وسبق من بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!".

(...) وهذا العلامة المؤرخ الشيخ عبد الله بن محمد غازي المكّي، (المولود سنة 1290، والمتوفى سنة 1365)، كان لا يفرط بدقيقة واحدة تفوته في غير العلم، وكان يضحي بأعزّ أوقاته وأنفسها في تأليف الكتب وتدوين الفوائد، جاء في "سير وتراجم" لعمر عبد الجبار (ص103): "وهذا - أي التأليف – لا يحول بينه وبين طلب العيش، فإذا مررت عليه تجده في مدخل رباط الحنابلة نصب له دولاباً صغيراً في جزء منه وضع فيه شيئاً من الكحل وورق الكتابة بين يديه لتقييد ما يريد تقييده!".

قلت: وفي دولابه الصغير هذا ألّف كتابه العظيم عن تاريخ مكة "إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام"، وذلك أثناء بيعه الكحل بمكة! كما في كتاب "تشنيف الأسماع" للشيخ محمود سعيد(1/673-680).

(...) – وهذا العلامة المقرئ الشيخ عامر السيد عثمان شيخ عموم المقارئ المصرية، (المولود سنة 1318، والمتوفى سنة 1408)، الذي عُرف رحمه الله بالدأب والبحث في المراجع في أمهات كتب الفقهاء والنحويين، يقول الدكتور عبد الله بن محمد الجار الله كما في كتاب "إقراء- ملتقى كبار القراء" (ص321): "ومن مناقبه جلده ومصابرته في مراجعة الكتب وقراءة المخطوطات ومراجعتها، فقد كان يقضي الساعات الطوال في البحث في الكتب والمخطوطات والتنقيب والتأليف، وساعات طوال أخرى في نسخ هذه المخطوطات وكتابة الكتب، وكانت سيرته تلك في البحث والقراءة هي الشرارة التي جعلت العلامة – محمود – الطناحي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشيخ عامر، ويحرص على صحبته، والإفادة منه، والقراءة عليه".

قلت: ذكر الشيخ عبد العزيز القاري صورة من حب الشيخ عامر للبحث والقراءة فقال: "ما وقفت عليه أنا ومعي نخبة من العلماء الأجلاء – منهم: الشيخ عبد الله الفوزان، والدكتور محمد الوائلي -، قمنا بزيارة الشيخ عامر، وكانت الشقة التي يسكنها في وسط حي شعبي والعمارة قديمة الشكل والمضمون، عندها توقف الشيخان وقالا: الشيخ عامر يسكن هنا؟ قلت لهم: نعم شيخ عموم المقارئ المصرية يسكن في هذا السكن المتواضع جدّاً، ثم استأذنا بالدخول عليه فأذن لنا، وكانت الكهرباء مقطوعة عن منزل الشيخ!، فدخلنا على الشيخ عامر وهو جالس في غرفة من غرف الشقة البسيطة، جالس وسط كومة من الكتب والمخطوطات، وبجانبه شمعات، وضوء خافت، وهو يراجع ويقابل بعض المخطوطات، - حتى قال الشيخ توفيق النحاس في وصف بساطة بيته، وحال الشيخ وهو يجلس بين كتبه:

بيتُه في جوار أخت الحسنيـ .... ن منارٌ هدى شباباً وشيبة

لم يكن فيه من أساس ورِيش .... غيرَ كُتب كانت له كالرّبيبة

فسلمنا عليه وجلسنا ننظر في حاله وأحواله، فقال لنا: مفيش حدّ يضيّفنا، ولكن أضيفكم بما هو أعظم وأكرم، ثم سلّما كلّ واحد منا مخطوطة من المخطوطات التي بين يديه، وجلسنا نقابل معه ما هو بصدده!، قال الشيخ القاري: وكان من عادته عند قراءة الكتب والمخطوطات أن يعتني بذلك عناية شديدة، بحيث يضع إصبعه على كل كلمة يتهاجاها كأنه يصحح مصحفاً – كناية عن دقته وشدة ضبطه -. وقال أيضاً: حتى إذا فرغنا من زيارته وضيافته، ودّعناه ونحن نقول بصوت واحد: ما أعجبها وما أكرمها من ضيافة، حين تكون الضيافة علماً نادراً من عَلم كبير من سادة القراء وفِخَام العلماء!". كما في "إقراء- ملتقى كبار القراء"(ص364-365).

(...) - وكان العلامة الفقيه المحقق الشيخ عبد القادر بن بدران، (المولود سنة 1280، والمتوفى سنة 1346)، قد آثر العزوبة في حياته ليتفرغ لطلب العلم ومطالعة الكتب، جاء في ترجمته في كتاب "علامة الشام عبد القادر بن بدران الدمشقي، حياته وآثاره" للأستاذ محمد بن ناصر العجمي (ص38): "وكان رحمه الله عزبا، يسكن غرفة كبيرة يصعد إليها بست وثلاثين درجة، هي مقامه ومنامه وطعامه وتدريسه ومطالعته".

بل لكثرة ما كان يقرأ ويطالع ضعف بصره على ما يقوله العجمي – كما في المرجع السابق ص65 - وتخدّرت يمناه عن الكتابة لكثرة ما كان يكتب، واستعان عليها باليسرى على ما أفاده العلامة محمد بهجت البيطار في تقدمته لكتاب "منادمة الأطلال"(صفحة: ن).

الخلاصة:

أنهم وإن ماتوا وغيّبت الأرض في بطنها أجسادهم، فستظل أسماؤهم لامعة وعلومهم باقية ينتفع الناس بها. ورحم الله النضر ابن شُمَيل، فكأنه كان يعنينا حين قال قولته العظيمة في الخليل ابن أحمد شيخ العربية، يقول النضر: لقد عاش الخليل بن أحمد في مِربد من مرابد البصرة، لا يجد قوت يومه، وأصحابه يأكلون بعلمه الأموال!. قلت ولكن المجد لم ينساه ولا نسيته – أيضاً - أقلام التاريخ، بل اسمه محفور في ذاكرته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما ذلك على الله بعزيز

هذا، والأخبار في هذا الجانب كثيرة، تجد أكثرها مبثوثة في كتب التراجم والسير والطبقات، وإنما قصدت الإشارة إلى شيء منها، وذلك من باب إسداء النّصح، وشحذ الهمم، والحثّ على طلب العلم، والصبر على شدائده، والهيام في تحصيله، وأنه بالإمكان لمن التزم نهجهم في الطلب، وسلك سبيلهم في الصبر والمصابرة والجدّ والنشاط والبكور، ورضي بما رضوا به: من النهم والسهر والعزلة، ومواصلة الليل بالنهار في المطالعة، والبحث والتدوين، والتطواف على الشيوخ، ومزاحمة التلاميذ بالركب بين يديهم، والقدرة على تحمّل العظائم والشدائد والجوع والعطش، والتفاني في بذل الغالي والنفيس..، فإنه بإمكان من رام هذا أَنْ يحصّل جميل ما حصّلوا وأن يبلغ غاية ما بلغوا، حتى في الرتبة ربما نافسهم وعن القمة أزاحهم!..، ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:

بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي

ومرتبتك إنما تقاس على قدر عزمك وعلو نفسك، يقول أبو الطيب المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم .... وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظُمُ في عين الصغير صغارُها .... وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ

وعلى قدر الهموم تكون الهمم، يقول الصاحب:

وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم؟

فقلت: دعيني على غصتي ... بقدر الهموم تكون الهمم!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين