الضيف المنتظر

الشيخ: محمد توفيق عربة

 

تطلع الأهلة على مدار العام، هلالاً وراء هلال، فلا ينظر الناس إليها إلا بمقدار ما تنبئهم بأن شهراً قمرياً مضى، وآخر في الطريق إلى الزوال، ولكن هلالاً واحداً يترقبه المسلمون في شتى مناحي المعمورة، يترقبونه بشوق وحنين، وفرح وسرور، وهدوء ممتزج بالإيمان...ذلك هو هلال رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان...

وما كان هلال رمضان ليرتقب قبل بزوغ نور الإسلام، ولا عرف الناس في الجاهلية لهذا الشهر قدراً ولا منزلة ولكن خالق الليل والنهار سبحانه، ورب رمضان وشوال... ميَّز هذا الشهر بميزات كل واحدة منها تكفي لأن يحبه المسلمون ويستمسك به المؤمنون ويحرص على صيامه وقيامه قوم حباهم الله النُّهى، وأنعم عليهم بنعمة التوفيق.

ففيه بعث أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنزل عليه في غار حراء أول هذا الذكر المبين... وفيه ليلة قال عنها العليم الخبير أنها:[إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ(2) لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3) تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ(5) ]. {القدر}..وفيه نزل جبريل عليه السلام على محمد البشير ـ عليه أزكى الصلاة والتسليم ـ لياليه كلها يذاكره القرآن، ويعيد عليه الفرقان، ويعلمه من علم الرحمن، جلَّت صفاته وتقدست ذاته...

 

وفيه منَّ الله سبحانه على نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بأول نصر تلقاه، وأول إعلاء لكلمة التوحيد ناله، إذ أمده بجنده وأيَّده بفضله ونصره يوم بدر، واطَّلع على من حضروها جميعاً فقال: (يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وفيه ما فيه من الفضائل والمزايا، ما لا يعرف قدره إلا خالقه، ولا يدرك كنهه إلا الذي أمر بأن يصوم فيه المسلمون ويقومون..ز حتى الذين أكبتهم شهواتهم على وجوههم طيلة العام، والذين تركوا لنفوسهم الأمارة بالسوء الحبل على الغارب فانغمسوا في الخطايا والآثام ـ والذين ظلوا غافلين سادرين لا يستمسكون بفضيلة، ولا يتناهون عن مآثم أو منكر... حتى هؤلاء نراهم إذا أقبل رمضان كفوا عن الشهوات، وحبسوا أنفسهم من اقتراف المنكرات، واتجهوا إلى رب الأرض والسموات، طامعين في غفرانه، ملتمسين التوبة عند بابه، آملين أن يشملهم بنفحة من نفحاته في هذا الموسم الرباني المعظم.

 

وإذا كان هؤلاء وأولئك يرجون رحمة الله، ويخافون في رمضان عذابه... وإذا كان الذين ظلوا أحد عشر شهراً لا يرعوون ولا يفيقون فإذا جاء رمضان كانوا على غير ما تعودوا وأقلعوا عما ظلوا عليه عاكفين، ونراهم قبل مقدمه يعدون له العدة، ويتخذون له الأهبة، فيعملون على تطهير نفوسهم وقلوبهم مما ران عليها... فمن الأولى؟ قوم عرفوا الله في السر والعلن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، صاموا لله تطوعاً في غير رمضان، وعبدوا الله صادقين على مدى شهور العام، وأخلصوا العبادة والنية فيما بينهم وبين خالقهم، وأخذوا يترقبون مقدم الضيف المنتظر في لهفة المشوق، و إحساس المحب، ولوعة المشتاق، حتى إذا أقبل عليهم كانوا لإقباله هاشين، ولاستقباله محسنين يضاعفون فيه أعمالهم ويجددون بالخيرات قلوبهم، ويتقدمون بالطاعات والصدقات قاصدين وجه خالقهم، صمتهم فكر، ونطقهم ذكر، وسعيهم خير، وحركتهم بر، وعملهم إخلاص لا يرجون من ورائه إلا القبول...

 

وإذا كان رمضان فيه كل هذه المزايا وأكثر، وفيه من الفضائل ما لا يحصى ولا يحصر، فليس عجيباً أن يأتي إلى المكروب فيخفف من كربه، وضيِّق النظرة إلى الحياة فيوسع من نظره، والشاكي من صرف الليالي فيرفع عنه شكايته، والبرم بما حوله من أحداث فينسيه تبرمه... كأنه يقول لهؤلاء جميعاً: يا معشر الناس، اطرحوا آلامكم وانسوا كروبكم، واذكروا ربكم، واحتقروا دنياكم فهي إلى زوال، وقدموا لغدكم أفضل ما لديكم من أعمال ولا تيأسوا من روح الله، فبعد الشدة الفرج، وبعد الكرب الفرج، وبعد الضيق السعة ـ وفي تسليم الأمور ـ عندما تشتد وتتأزم، لمن بيده الخلق والأمر سبحانه النجاح والفلاح، والنجاة والوصول إلى بر السلام بعون الله.

 

 

ويا رمضان... هأنتذا مقبل علينا والمسلمون ما اتفقت لهم كلمة، ولا أصبحت لهم عزمة، ولا أجمعوا أمرهم على كلمة سواء، ولكم تمنينا في أيامك الخاليات، ودعونا في لياليك المباركات، أن يوثق الله وحدة أمة الإسلام، ويجعل أهلها أشداء على الأعداء رحماء بينهم، يخشى خصومهم باسمهم، ويأمن وليهم سرهم وجهرهم...

 

 

وها نحن أولاء نكرر الدعاء، ونعيد الرجاء إلى رب الأرض والسماء، أن يجعل مقدمك هذا العام علينا فاتحة خير وبركة، ومطلع يمن وسعد، فنرى الأمان إلى النفوس يعود، والرخاء إلى بني الإنسانية يعم، والألفة أمةَ الإسلام تسود ويختفى من بين أعيننا حقد الإنسان على أخيه الإنسان، وطمع التقوى في أن يستعبد الضعيف، ويكشف الله في أيامك الخاشعة، ولياليك المنيرة، عن قلوب ران عليها النفاق فلا يسير السذج وراءها، وألسنة تقول ما لا تفعل فيظهر على الملأ غشها وتضليلها ونفوس ملئت بالحقد على الإسلام والمسلمين وهي تدَّعي أنها من المسلمين:[كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:3}.

 

 

يا رمضان... لقد مدَّ الله في العمر حتى استقبلناك، ونحن نتجه إليه تعالى، أن يمدَّ فيه فنحييك ونحياك، وأن يعيننا على أداء حقك، وقضاء واجبك، وصيام أيامك، وقيام لياليك، وأن نقدم لك ما يليق بمكانتك، ويتفق مع منزلتك عند الله وعند المؤمنين، وأن تعود علينا والرخاء يشملنا، والأمن يظلنا، وشؤون الدنيا وما نتقاضاه هينة أمامنا، والآخرة ولقاء الله هي كل همنا، فما لنا من أمل إلا أن تكون الخاتمة الحسنة عند الخروج من هذه الدنيا وإلى الله المرجع والمآب.

يا رمضان... مرحباً بك وأهلاً، ورجاؤنا أن نكون لاستقبالك وتوديعك أهلاً...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين