التدين الاصطناعي

حديثنا اليوم عنوانه : التدين الصناعي ... أنا أعلم أن التعبير قاس، لكنه صادق وواف ، فما نراه اليوم في مجتمعاتنا لا يمكن وصفه إلا بذاك .

ودعونا نقدم لذلك بمقدمة بسيطة :

إن كل شيء من حولنا منه ما هو اصطناعي ومنه ما هو حقيقي ... .

فهناك حرير اصطناعي سعره عادي ، وحقيقي تفرزه دودة القز، ويحرم استعماله على الرجال .

هناك صوت حقيقي ذو كلمات وحروف ... وهناك صدى يرتد إليك يعكس تلك الحروف والكلمات ...

هناك عسل طبيعي تجده بين الجبال وفي الوديان ... وهناك عسل صناعي تفرزه النحل من سكر منثور .

هناك أصدقاء حقيقيون تجدهم إذا ندبتهم... كما أن هناك أصدقاء بالاسم لا يسمنون ولا يغنون من جوع .

هناك دم حقيقي ... من جرح يسيل ... كما أن هناك دم يستعمل في التمثيل ...

هناك انثى ثكلى تبكي محترقة... وأخرى نائحة مستأجرة محترفة ...

وَفي الأَحبابِ مُختَصٌّ بِوَجدٍ وَآخَرُ يَدَّعي مَعَهُ اِشتِراكا

إِذا اِشتَبَهَت دُموعٌ في خُدودٍ تَبَيَّنَ مَن بَكى مِمَّن تَباكى

هناك تنفس اصطناعي – عافانا الله وإياكم – وتنفس طبيعي نحمد الله تعالى عليه .

هناك مواطن حقيقي ... وآخر ليس بذاك .

يا سيدي حتى الفواكه منها ما هو طبيعي وحقيقي ... ومنها ما هو اصطناعي تدخله مواد كيمياوية لا تجد منها طعماً ولا ترى لها في حلقك مذاقاً .

الأخلاق ... منها ما هو أخلاق طباعاً ... ومنها هو تخلق وتطبع .

كُلُّ اِمرِئٍ صائِرٌ يَوماً لِشيمَتِهِ وَإِن تَخَلَّقَ أَخلاقاً إِلى حينِ

الكرم والجود والعطاء ... منه ما هو طبيعي يجري مع النفس ... ومنه ما هو تكلف واضح... سئل المتنبي يوماً : أيهما أجزل عطاء ... سيف الدولة الحمداني أم عضد الدولة ؟ فقال: هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف، وكان سيف الدَّولة يعطي طبعاً.

التقوى منها ما هو حقيقي .... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) آل عمران/102... وهناك تقوى لا تقوى أمام المغريات والابتلاءات .

العلماء ، منهم علماء ربانيون قال الله فيهم : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) فاطر/28 ... وعلماء دون ذلك قال فيهم ابن المبارك :

يا جاعِلَ الدين لهُ بازِياً يصيدُ أموالَ المساكين

احتلتَ للدنيا ولذّاتها بحيلةٍ تذهبُ بالدين

حتى الجمال منه ما هو حقيقي... ومنه ما هو اصطناعي .

وكذلك هناك تدين حقيقي وتدين اصطناعي ...

أما الحقيقي فهو تشرب القلب لهذا الدين ومخالطته بشاشته وجعله إياه حاكماً عليه وموجهاً له في تصرفاته ...

التدين الحقيقي هو أن يقدم المرء مصلحة الدين على مصلحته ... ويعلي أمر الدين على منافعه الشخصية والآنية ...

التدين الحقيقي يحمل الإنسان على أن يحيا له... ويحارب من أجله... ويموت في سبيله ... كما فعلت ماشطة ابنة فرعون . ‏عَنِ ‏‏ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏‏قَالَ ‏ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (‏ ‏لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي ‏‏أُسْرِيَ ‏‏بِي فِيهَا ، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ ، فَقُلْتُ : يَا ‏جِبْرِيلُ ‏،‏ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ ؟ فَقَالَ : هَذِهِ رَائِحَةُ ‏‏مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ ‏‏وَأَوْلادِهَا ، قَالَ : قُلْتُ : وَمَا شَأْنُهَا ؟ قَالَ : بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ ‏‏فِرْعَوْنَ ‏‏ذَاتَ يَوْمٍ ، إِذْ سَقَطَتْ ‏‏الْمِدْرَى ‏‏مِنْ يَدَيْهَا ، فَقَالَتْ : بِسْمِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ ‏ ‏فِرْعَوْنَ :‏ ‏أَبِي ؟ قَالَتْ : لا ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ ، قَالَتْ : أُخْبِرُهُ ‏‏بِذَلِكَ ! قَالَتْ : نَعَمْ ، فَأَخْبَرَتْهُ ، فَدَعَاهَا فَقَالَ : يَا فُلانَةُ ؛ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ؛ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ ، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ‏ ‏تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا ، قَالَتْ لَهُ : إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً ، قَالَ : وَمَا حَاجَتُكِ ؟ قَالَتْ : أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا ، قَالَ : ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ ، قَالَ : فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ ، وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ ، قَالَ : يَا ‏‏أُمَّهْ ؛‏ ‏اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، فَاقْتَحَمَتْ ) . رواه أحمد وغيره.

هذا هو التدين الحقيقي ... أما الصناعي فيحمل صاحبه على أن يحيا بهذا الدين... ويتاجر به... ويحتال به ...

التدين الحقيقي إكسير وعصا سحرية يصيب الميت فيحيا والضعيف فيقوى أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الأنعام ) 122.

التدين الحقيقي هو الذي بلغ بأسلافنا المنزلة العليا ففتحوا الفتوحات ... والتدين الاصطناعي هو الذي بلغ بنا تحت الأرض .

كم صرفَتْنَا يدٌ كنّا نصرِّفـــــــــــها *** وبات يملكنا شعبٌ ملكنـــــــاه

مَنْ وحد العرب حتى كان واترهم *** إذا رأى ولَدَ الموتور آخـــاه ؟

وكيف كانوا يداً في الحرب واحدة ***مَن خاضها باع دنياه بأخراه ؟

وكيف ساس رعاةُ الإبْل مملكة *** ما ساسَهَا قيصرٌ من قبلُ أو شاه ؟

وكيف كان لـهم علم وفلســـفة؟ *** وكيف كانت لـهم سُفْن وأمــــواه ؟

أين الرشيد وقد طاف الغمام به *** فحين جاوز بغداداً تحــــــــــــداه؟

ماضٍ تعيش على أنقاضه أمَــمٌ *** وتستمدُّ القوى من وحي ذكــــــراه

ما بال شمل شعوبِ الضاد منصدعاً؟ *** رباهُ أدركْ شعوب الضاد رباه!

لا هُمَّ، قد أصبحت أهواؤنا شيـــــــعاً *** فامنُنْ علينا براع أنت ترضاه !

راعٍ يعيد إلى الإسلام سيــــــــــــرتَهُ ***يرعى بنيه وعينُ اللـه ترعـــاه

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين