حماس والتعزية بسليماني: سياسية أم تحولات

سياسياً أصدرت حماس الكثير من التعازي منها مثلا التعزية بياسر عرفات والملك حسين والملك عبد الله بن عبد العزيز وباسل الأسد والناس تختلف فيهم وفي قدرهم احسانا او إساءة وظلما اتجاه قضايا الإسلام .... ولم تزل حماس منذ شيوع حركتها توجه الخطابات السياسية وفق الأعراف الدبلوماسية في شخصيات فيها ما فيها... وكانت البراءة تأتي من الغلاة فلا أدري أصبحنا غلاة أم كان الغلاة على صواب!؟

(أقصد في البراءة منها كما يَفْعَل الغلاة لا في أصل النقد والنصح)

وكونها تزل مرة وتخطئ مرة وتصوب مرة وترتفع وتهبط ككل جهد بشري يصيب ويخطئ ليس بجديد!

ولكن الجديد ارتكاب خطأ من وزن التعزية بشخصية بارزت وباشرت القتل والعداء في المنطقة السنية!

والجديد أيضا حجم الهجوم والتشفي والذي وصل حد اللعن والدعاء بالثبور على موضوع تعزية بسليماني!

بعض الفضلاء مصدومين وهذا حق ... لأن (التعزية بمجرم) فيها إساءة لمشاعر وقضية السوريين والعراقيين (ولو كان إجراءً سياسياً) ... وهو خطأ سياسي كبير، سيترتب عليه مفاسد! ولكن بعض الكتابات تجاوزت حدود النقد الى الطعن والتخوين... والعجيب البعض أعلن البراءة من حماس في مشهد يشبه أفلام الأكشن، وأحدهم ترحم أو كاد يترحم على محمد شحرور، وقال: "هو بين يدي رب رحيم نسأل الله له الثبات..." فتأمل أن هذا ممن ينكر على تعزية حماس... ولا أقول هذا لرد كلام شخص في رفض التعزية الحمساوية؛ وإنما لبيان التناقض المنهجي لدى البعض ممن هم نخب اكاديمية. وآخر زعم أن الاستسلام لليهود أهون من مجاملة إيران... هكذا بزعمه أقل مفسدة. نعوذ بالله من فساد الرأي. 

أن نشاهد حملة تحريض وتبرؤ واسقاط ضد حركة إسلامية مجاهدة لأنها نعت رجلا مجرما! ... والله لأمر عجيب! أن تسارع الأقلام للكتابة الهادمة وكأننا في مهرجان خطابي وكل كاتب يزيد على سابقه.. أليس بيننا جهات متخصصة تخاطب الجهات المعنية وذات الصلة لإعادة الأخوة في غزة إلى جادة الصواب وفق ضوابط التناصح الشرعية بلا فتح باب الخصومة في الصف السُّني ... أنا أدعوا إلى خطاب تقوم به المرجعيات الدينية والسياسية لوقف مثل هذا التصرف (المرفوض والغير مبرر) وفق منظور العقلاء لا وفق ميزان التشفي أو لحظة غضب ولا في حالة اندفاع عواطف التي قد تتغير أو تتهور حسب الأجواء....

ولقد صدرت كتابات منصفة عديدة ونقد أخوي نجد فيه روح النصح والإشفاق ولله الحمد، وكذلك صدرت مواقف تبين الخطأ وتوضح الصواب دون تجريح ولا هدم ولا حرق... وهو أمر نحتاج ترسيخه في ظل الواقع الصعب الذي لا يتحمل مزيد من التشكيك والطعن. 

لا زلت أذكر نقمة الناس يوم ذهب الرئيس مرسي إلى إيران، وسيل الانتقادات الجارف آنذاك، ودون التبصرة بالموضوع؛ حيث كان الاجتماع ليس بين مرسي وإيران بل كان اجتماع دول عدم الانحياز عام 2013م، طبعا لا يقارن هذا المشهد بمشهد اليوم لكن موضع المقارنة هو غضب العامّة الذي لا يرى الأبعاد والجوانب الموضوعية، ودور النخب والموجهين والمؤثرين توجيه الرأي العام وبيان الصواب له، لا (الانجرار مع أو الوقوف ضد).

لنعود ولنقرأ المشهد من زوايا متعددة ولنرجع الى سنوات مضت...

من القدس عام ٢٠١٥م

[في المسجد الأقصى يوجد اقتحامات يومية للصهاينة وتدنيس وشرب خمور وصلوات يهودية، وغالب المصلين لا يستفزهم ذلك، ولا يوجد سوى قلة من المرابطين (أو بشكل أدق المرابطات) يتصدون لذلك، بينما اليوم ثار أغلب المصلين عندما نعى الخطيب الملك السعودي!...]

حركة حماس حركة اسلامية سنية... وهي رأس مال أهل السنة والجماعة في فلسطين مع فصائل مجاهدة أخرى بمقابل حركات علمانية عميلة أو ثورية لا إسلامية، والخصومة بينها قائمة والدماء بينهم جارية ومع ذلك لو مات أبي مازن اليوم لعزت به حماس وهم أكثر الناس الذين يعلمون عمالته وقبحه...

حركة حماس تاريخها ومنهجها ومقرراتها التعليمية معروفة وهي لم تقبل بأي شكل من أشكال التأثير مِنْ قبل جميع الداعمين حكومات ومنظمات... وهذا ظاهر للمتابع.

إيران من سياساتها أنها تزاود على حكومات الدول السنية بقضية فلسطين، وإيران تدعم العديد من الفصائل الفلسطينية منذ سنوات، فمَنْ وقف ضد وجود فصيل يتبع إيران كلياً؟ إنها حماس. 

لمْ تَقْبَل الحركة أي نشاط تشيع أو تطبيع فكري مع إيران داخل غزة ولم يُؤثر عنها أي موقف خارج الإطار السياسي مع إيران... بل مَنَعَتْ حركة الجهاد من إقامة مجلس عزاء حسيني (أقيم مرة واحدة) وحذرت قيادات أخرى من الدخول في أي تقارب مع الشيعة وحافظت على حدود علاقة سياسية ناجحة مع دول عربية (مستبدة ظالمة فاجرة) مثل حكومة بشار الأسد التي امتدت عشر سنوات ثم كان الفراق بينهم المعلوم 2012.

مشهد... مهم: 

في الثمانينات الرئيس صدام حسين يستضيف مجموعات من الإسلاميين من سوريا وغيرها... وهو الذي ضَيَّقَ على الحراك الإسلامي السُّني في العراق، بل خرج من العراق جملة من كبار علماء السنة خوفا على أنفسهم أو بسبب التضييق (ربما عام ١٩٩٥م، تم افساح المجال أمام الدعاة بصورة مقبولة) وكان مشايخ العراق لا يُبدون ارتياحا من مدح شخصيات إسلامية للنظام العراقي ويطالبونهم بعدم الاغراق في العلاقة مع صدام كما حدثني مشايخي في العراق. (وكان المديح يأتي لا من كون صدام بعثيا، إنما من كونه خصم لأمريكا).

بعد 2003م انعكست الصورة، الشيخ المجاهد حارث الضاري في دمشق يلتقي بشار الأسد ومشايخ سوريا ينبهون مشايخ أهل السنة في العراق ألّا يذهبوا بعيدا في علاقة مع النظام السوري...

كل ذلك كان يجري بتفهم للموقف وتقدير للظروف والأبعاد وانعدام وجود خيارات في ظل تخلي المحيط العربي الرسمي عن سنة العراق وشعوب مغلوبة على أمرها... بل استجاب مشايخ السنة في العراق لدعوة من الخارجية الروسية كون روسيا تمثل شكل من أشكال المناكفة للأمريكيين... ويومها أذكر كيف أصدر الغلاة اصدارا إعلاميا خاصا بتكفير المشايخ الذين زاروا روسيا على اعتبار أنه ولاء لأعداء الدين ومن يقاتلنا في مناطق أخرى.

وحركة حماس حركة استطاعت أنْ تبني علاقات سياسية جيدة (ونادرة ضمن قائمة الحركات الإسلامية) مع دول في مختلف قارات العالم. وعربيا استمرت علاقتها مع دول مثل مصر والسعودية والأردن واليمن، مع تذبذبات... نلاحظ أيام نظام مبارك الذي وافق على اغلاق المعابر وشارك في حصار غزة منذ أوله عام ٢٠٠٦م... ليس ذلك فحسب بل المخابرات المصرية التي أبلغت حماس بعدم نية اليهود بضرب غزة عام ٢٠٠٨ م وقامت يومها حكومة هنيّة بإقامة حفل تخريج القوة التنفيذية التي استهلكت شهور من التدريب والإعداد بعد تأجيله خشية ضربة يهودية كانت متوقعة ... وغدرت المخابرات المصرية بحماس، وتلقت غزة ضربة مفجعة لا أظن أننا نسينا (٣٠٠) شهيد في ساعة واحدة 27- 12-2008م، كل ذلك وبقيت حماس على علاقة وتواصل مع نظام مبارك. حتى داخليا أعادت حماس العلاقات مع حركة فتح وقدمت لها تنازلات سياسية وتنازلت عن اسم رئيس الوزراء اسماعيل هنية... (وهم الذين جرى بينهم الدم) كل ذلك علاقة الضرورة ولا أظنه محل خلاف، لكن المقصد أن طبيعة الصراع وظروف وأدوات العمل الإسلامي مكبلة ومقيدة أصلا وكلٌ لهُ اجْتهادٌ وسعيٌ ورأيٌ ... هكذا نَسَجَتْ حَماس حراكها السياسي في غابة معقدة مليئة بالمعطيات والمخاطر ... حتى اليوم مع كل التآمر من حكومات المحيط العربي على غزة، ودخول بعض الدول مع دول في صفقة القرن لا تزال حماس تتطلع إلى بصيص علاقة مع أهم دولتين تمثلان العمق العربي والإسلامي، ولكن نلاحظ اليوم انحدار التوجه السياسي العربي اتجاه قضايا الأمة. ثم ونحن أمام سياسات خطيرة جدا في المنطقة لم تُعهد من قبل وأمام صفقة القرن التي لا يدري عنها البعض شيئا والثورات المضادة ومع تصاعد وتيرة الدخول في حرب جديدة في غزة وهذه المرة تحت الترتيب بمسح خارطة غزة وتصفية القضية، كل ذلك التعقيد والخطورة تغيب عن البعض في قراءة المشهد...

ننتقل إلى جانب آخر

تعتمد حماس على امتداد شعبي اسلامي عريض... وتعتبر الحركة أن امتدادها الإسلامي يعصمها من الخضوع لابتزاز داعمين سواء إيران او غيرها...

كانت الحركة تتلقى ما يقارب دعم شعبي أهلي من دول معروفة بالاهتمام بقضية القدس وفلسطين منها سوريا واليمن والسعودية وتقدر مساهمة كل شعب نحو (١٠ مليون $) سنويا كما أخبر بذلك بعض قادتها...

كانت الحركة تراهن على الزخم الشعبي الإسلامي في تحصين نفسها من أي ابتزاز حكومي فهي تحصل على الحد الأدنى من مساهمات الشعوب ... فلن تقهر بقطع دعم حكومي أو تحكم ما...... وهذا جانب آخر فُقد اليوم...! نظراً لانشغال المنطقة برمتها في ثورات الربيع العربي المبارك فقد كانت الأمة سابقا تتعامل مع قضية واحدة او اثنتان فتنصب الجهود باتجاه محدد بزخم كبير، باتت الشعوب اليوم في حجم مسؤوليات كبيرة وكل بلد بالكاد يسد ثغر قضيته (وهو أمر طبيعي نسبيا وهو الانشغال بالعدو الأقرب لكل بلد).

باتت المنطقة تدريجيا منذ 2011 وخاصة بعد ٢٠١٥ مشتعلة/ اليمن ليبيا السودان مصر العراق سوريا ... لم يعد أي شعب ذو قدرة على مساعدة أياً من أزمات المنطقة/ حصار - جوع - استنزاف معارك.... الخ

فباتت كل جالية وكل جماعة مشغولة وتعمل على منطقتها... مع تزايد الحصار والمراقبة على كل تحركات المال والدعم بما في ذلك العمل الإغاثي. لدرجة توقف أعمال ضخمة لمؤسسات قطرية نحن نعلمها جيداً...

وهذه نقطة أو جانب مهم: ولمْ يَحْصل وجود خطورة في شق صف الحراك الإسلامي الحي والذي يدافع عن الأمة ومقدساتها كما هو اليوم... لذلك هذا يستدعي وقفة طويلة أمام التحديات.

ننتقل إلى جانب آخر

منذ بداية الثورة السورية لملمت حماس مكاتبها وخرجت من دمشق لأنه لا مجال إلا أن تكون مع النظام أو مع الشعب... فاختارت طريقها، ومع ذلك استهلك الأمر منها أشهراً... لأن تحرك جماعة ليس كتحرك أسرة أو فرد. ثم دفعت ضريبة في مخيم اليرموك وفي بعض شخصيات الحركة الذين اعتقلهم النظام.

يومها ٢٠١١ و٢٠١٢ صارت الألسن تخوض في الحركة وتشكك في توجهها وسيل الطعن الجرار كان ساريا ثم توقف... وأثبتت الحركة أنها لن تكون مع نظام مستبد وهو في حالة مواجهة مع شعب مسلم، وأنَّ حدود العلاقة لم يكن أكثر من الجاني السياسي دون أي تأثر ولاء أو تبعية... وسؤال كبير يطرح نفسه: هل يمكن أنْ تكون حركة حماس تتحول عن مبادئها؟ أقول لا عصمة لأحد، ولكن لا يوجد مؤشر ولا قرينة على ذلك في تقديري الشخصي... وحماس تتمتع بمنهج وبعد إسلامي يضعها في موضع القدرة على التصحيح والتصويب إن شاء الله. نسأل الله تعالى لهم الثبات والنصر والسَّلامة من كيد إيران ومن كيد اليهود والأمريكان.

• النتائج:

- لا يمكن (ولمْ تعرف) لحركة إسلاميّة سُنيّة تماهت أو تحالفت تحالفاً استراتيجيا مع دولة أو حكومة من الحكومات المعاصرة والتي لا تخرج كلها (عن الاستبداد والظلم). ولا يُمكنْ في تقديري أنْ توجد ما دامت هذه حال الحكومات، مهما قدمت من دعم.

- حماس حركة سُنية مجاهدة تمارس السياسة بامتياز منذ نشأتها. تصيب وتخطئ.

- يوجد خلاف داخلي في طريقة التعاطي مع الدعم الإيراني، فليست كل مؤسسات الحركة ولا كل قياداتها موافقون على هذه التعازي التي تصدر.

- لم يُؤْثر عنها ادخال التشيع ولا اعطاء فرصة للفكر الشيعي الى قطاع غزة. ولا يوجد شيعة في كل فلسطين. 

- خرجت من دمشق في خطوة باتجاه صحيح رغم عدم وجود البديل. وتراجعت العلاقة مع إيران لمدة 3 سنوات بسبب موقف الحركة مما يجري في المنطقة. 

- حماس فقدت معونة الاشقاء من الشعوب بسبب انشغال كل بلد بثورته. 

- بعض الدول المحيط العربي قطعت العلاقة مع حماس نهائيا

- دول أخرى كانت أكثر مناصرة لفلسطين، طلبت من بعض الشخصيات من حماس المغادرة بسبب الضغوط الدولية.

- خطورة صفقة القرن (التي وقعت عليها عدة دول)، والتي تهدف إلى إنهاء ومسح غزة من الخارطة واخراج الناس باتجاه سيناء.

- أقيمت في غزة فعاليات تندد بالعدوان الصهيوني الأخير على الأقصى وحضرها الآلاف... هذا الأسبوع (بعد مقتل الهالك سليماني) ولم يتطرق أحد إلى سليماني مما يؤشر على أن خيمة العزاء لم تكن أكثر من (تصوير).

- لم ترفع أعلام إيران أو شعارات شيعية في غزة لا اليوم ولا من قبل.

كل ذلك لا نقصد به أنَّ حماس لم تخطئ. لكن المقصود الوقوف على المشهد كاملاً وتقدير الموقف السياسي والعسكري والإقليمي في المنطقة وأين تتجه الأمور، لا مجرد النقد ولا لأجل الاقتصار على النصح والكتابات، بل للعمل والوقوف بجانب قضايا المسلمين الكبرى.

هذا هو المشهد بصورة اجتهدت في رسم معالمها الثابتة وتبقى التفاصيل أكثر تعقيدا... وخطورة الواقع اليوم وتعقده تجعلنا أمام مسؤوليات كبيرة... بعد ذلك ليحكم كل امرئ بما يراه من مفاصلة او مناصحة أو معاتبة أو محاربة

رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين