من نفَّس عن مؤمن كربة

هذه خطبة جمعة ألقيتها في جامع الرضا بجدة، وجدت أصولها بين أوراقي، وقد قام الأخ الفاضل طارق قباوة بإحيائها فجزاه الله خيراً وهو شريكي في الأجر، أحببت أن أنشر هذا الخير، ليكون من العلم النافع المَّدخر، وتركتها على صورتها التي أعددتها وارتجلتها، وأرجو أن يرى القراء فيها نفعاً وفائدة وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

روى مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). رواه مسلم بهذا اللفظ، وأخرج بعض جمله من حديث ابن عمر البخاري في كتاب المظالم.

لغة الحديث: (نفَّس) ورواية الصحيحين: فرَّج. والمعنى: خفف أو أزال ما في نفسه من أثرها. و(الكربة) الشدة العظيمة التي توقع من نزلت فيه بغم شديد.

فقه الحديث وما يرشد إليه

المسلمون جسد واحد: إن أفراد المجتمع المسلم أعضاء من جسد واحد، يتحسس كل منهم مشاعر الآخرين، فيشاركهم أفراحهم وأحزانهم: يُسرُّ لما يحظون به من فرح وسرور وبهجة، وما يتمتعون به من أنس وصحة وسعادة.

ويتألم لما ينالهم من أذى، وما يصيبهم من مرض، وما يقع بهم من شدة وكرب وفاقة وفقر. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

ومن أهم ما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم أن يسارع في تفريج كربه، وإزالة ما يقع فيه من هم أو غم.

كرب الدنيا عديدة وطرق تنفيسها متنوعة: إن الحياة ملأى بالمتاعب والأكدار، وكثيراً ما يتعرض المسلم لما يوقعه في غم وهم وضيق وضنك، مما يجب على المسلمين تخليصه من ذلك:

نصرته وتخليصه من الظلم: قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) ـ متفق عليه ـ وفي رواية عند مسلم (ولا يخذله) أي:لا يتركه للظلم، ولا يترك نصرته.

وقال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان مظلوماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه، أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ) متفق عليه.

ولاسيما إذا كان الظلم الذي يقع عليه بسبب دينه وتمسكه بإسلامه، من قبل قوم كافرين، قال تعالى:[ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ] {الأنفال:72}.

وتجب نصرة المسلم في كل حال، سواء وقع عليه ظلم مادي أو معنوي، في نفسه أو عرضه أو ماله.

روى الإمام أحمد في مسنده عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أذِل عنده مؤمنٌ فلم ينصره، وهو قادر على أن ينصره، أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ).

تخليصه من الأسر: إذا وقع المسلم أسيراً في قبضه العدو كان على المسلمين أن يسارعوا في تخليصه من الأيدي الآثمة، التي تسعى في فتنته عن دينه.

روى البخاري وأبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني) ـ أي: الأسير ـ.

إقراضه المال إن احتاج: قد يقع المسلم في ضائقة مالية، فيحتاج إلى النفقة في حوائجه الأصلية من طعام وشراب ومسكن وعلاج ونحو ذلك... فينبغي على المسلمين أن يسارعوا المعونة، وعلى الأقل أن يقرضوه المال قرضاً حسناً، بدل أن يتخذوا حاجته وعوزه وسيلة لتثمير أموالهم وزيادتها، كما هو الحال في مجتمعات الربا.

قال الله تعالى: [ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا] {المزمل:20}. وقال تعالى: [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً] {البقرة:245} .

كُرب يوم القيامة والخلاص منها: ما أكثر كرباتِ يوم  القيامة، وما أشد أهوالها، وأفظع مخاوفها، وما أحوج المسلم لأن يجد لنفسه عملاً صالحاً في ذلك اليوم يخلصه من شيء منها، ويكشف له متنفساً للنجاة، وينير طريق الفوز بالجنة أمامه.

قال صلى الله عليه وسلم: (وتدنوا الشمس منهم، فيبلغ الناس من الكرب والغم مالا يطيقون...) وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ـ الغرلة: هي الجلدة التي تقطع في الختان ـ قلت: يا رسول الله النساء والرجال جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض).

وفي خضم هذه الأهوال يتدارك المؤمن عدلُ الله عزَّ وجل، فيكافئه على صنيعه في الدنيا، إذ كان يسعى في تفريج كربات المؤمنين، فيفرج عنه أضعاف ما أزال عنهم من غمِّ وكرب: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

التيسير على المعسر: والمعسر غالباً هو من أثقلته الديون وعجز عن وفائها عند حلول آجالها، وقد يكون الإعسار بتراكم النفقات عليه وليس لديه ما ينفقه...

ويكون التيسير عليه بأمرين:

الأول: أن ينظر الدائن مدينه إلى وقت يمللك به ما يفي به دينه ويصبح ذا يسار، وهذا التيسير واجب لقوله تعالى:[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] {البقرة:280}..

الثاني: أن يبرئ الدائن مدينه من الدين، أو يضع جزءاً منه، فهذا التيسير مندوب إليه، وله فضل عظيم عند الله عزَّ وجل، قال تعالى:[ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:280}.

روى مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه).

الله تعالى أولى بالتيسير: روى البخاري ومسلم ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان رجل يداين الناس فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه).

في ظل الله عزَّ وجل: روى الإمام أحمد عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أعان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في عسرته، أو مكاتباً في رقبته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله).

نماذج في الطاعة والامتثال:  

هذا كعب بن مالك رضي الله عنه تقاضى ـ أي: طلب أن يقضيه دينه ـ ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته ـ أي: ستر حجرته ـ فنادى: يا كعب. قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دينك هذا. وأومأ ـ أشار ـ إليه أي: الشطر ـ النصف ـ قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه ـ متفق عليه ـ.

وهذه عائشة رضي الله عنها تقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ـ أي يطلب أن يحط عنه شيئاً من الدين ـ ويسترقفه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين المتألي على الله ـ أي: الحالف المبالغ في اليمين ـ لا يفعل المعروف ؟ فقال: أنا يا رسول الله، وله أيُّ ذلك أحب ـ أي: أي له ما رضي من الحط أو الرفق ـ.

التعاون بين المسلمين وعون الله عزَّ وجل لهم: 

إن المجتمع لن يكون سوياً قويماً، ولن يكون قوياً متماسكاً، إلا إذا قام على أساس من التعاون والتضامن والتكافل فيما بين أفراده، فسعي كل منهم في حاجة غيره بنفسه وماله وجاهه، حتى يشعر الجميع أنهم كالجسد الواحد، وهذا ما دعا إليه القرآن الكريم: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] {المائدة:2}. وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) متفق عليه.

ولما للتعاون من أثر كبير في بناء المجتمعات، وحياة الأمم والأفراد كان من أفضل الأعمال عند الله عزَّ وجل، وكان عبادة لها من الأجر والثواب مثل ما للصلاة والصيام والصدقة... قال صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل في دابته: فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقه). ـ متفق عليه ـ.

وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض، فتحزم المفطرون وعملوا، وضعف الصوام عن بعض العمل فقال في ذلك صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر )، والمراد: أنهم لهم من الأجر مثل ما للصوام أو أكثر، لأنهم بعملهم أعانوا الصوَّام على صومهم.

وروى الطبراني عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الأعمال: إدخال السرور على المؤمن: كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت حاجته ).

ولا شك أن أعظم ثمرة يجنيها المسلم من إعانته لأخيه هي ذاك العون والمدد من الله تبارك وتعالى: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) فيلهم الناس ليسارعوا إلى عونه، ويسعوا في خدمته، وقضاء حوائجه، والاهتمام بشؤونه، والفضل منه وإليه سبحانه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 29/9/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين