أم علاء... دروس من حياتها الشخصية والدعوية

بقلم زوجها حسن قاطرجي

 
زوجتي الداعية الصابرة أم علاء رحمها الله كانت من نوادر النساء فيما سأتحدث عنه ولا أُبالغ إن شاء الله، وأُقِرّ بأنها واحدة من البشر تصيب وتخطئ، وتطيع وتُذنب، ولكن أشهد بحسب ما أعلم أنّ فضلها يغلب، وصوابها يسبق، ولا أزكِّيها على الله عز وجل وهو حسيبُها، وأسأله سبحانه أن يجعل أخطاءها وذنوبها مغمورة في بحر فضائلها وخيرها، وفيما يلي بعض جوانب مهمة من حياتها الشخصية والدعوية فيها دروس عظيمة خاصة للنساء:
1. زُهدها في الدنيا: فهي لم ترضَ أن يكون لها عُرس وهذا عجيب من النساء! ولا أعلم يوماً لَبِسَت الحُليّ، وكنت أعرض عليها إهداء الذهب أو الفضة فكانت تُجيبني بأنها تنفِرُ من ذلك! ومتطلَّباتُها الدنيوية الخاصة بها متواضعة جداً بخلاف المتعلقة ببعض جوانب حياة بناتها مما له صلة بنظرة الناس؛ فقد كان لها اجتهاد تُرجِّح فيه المصلحة الدعوية والعلاقاتية، وزادت لديها مشاعرُ الميلِ للزهد وعدم الاكتراث بمتاع الدنيا في مُدّة مرضها حتى قبل أن يشتدّ عليها، وغلب عليها مقامُ شهود عظمة الله عز وجل، فكانت تعبّر لي مرّات ومرّات أثناء محنة مرضها عن عظيم حبها له سبحانه وحبّ الحبيب السيد المبارك حبيب المؤمنين ومهوى أفئدة المحبّين إمام المسلمين وسيد النبيين نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حبها الشديد للسيدة المباركة مريم عليها السلام سيدة نساء العالمين ولطالما سمعتها تردِّد (السيدة مريم غير شكل، أرجو إنْ شُفيت أن أزهد وأتبتّل مثلها) رحمكِ الله يا أم علاء.
2. صبرُها العجيب: على متاعب طريق الدعوة ومتاعب العمل العامّ وتلبية حاجات الناس ومتاعب الاختلافات وتنوّع الطباع، بل أحياناً أذى أهل الأهواء غفر الله لها ولجميع المسلمين. كما تجلّى في صبرها المُدْهش طيلة مدة مرضها الشديد الذي عانت منه فلم تَنْبَسْ ببِنْت شَفَة متبرّمةً أو رافعة صوتَها بالتوجّع، أيْ واللهِ، وطبيبُها الدكتور أنس مغربل عنده من أخبارها في هذا المجال وفَرَادة أحوالها بين المرضى الذين يُصابون بمثل ما أُصيبت به عدة انطباعات وأخبار، وهذا يدلّ إن شاء الله على علامات رِفْعة مقامها وحُسْن خاتمتها.
وأنا أرجو أن يُكرمها الله عز وجل بثواب الصابرين وهو سبحانه الذي وَعَد: (إنما يُوَفّى الصابرون أجرَهم بغير حساب) وأن تكون لها البِشارة التي بشّر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصحابية - أم العلاء - أيضاً - وقد ابتُليت بالأمراض بل ورد في رواية الحافظ ابن السَّكَن أنها كانت تَضَوَّرُ من شدّة الوَجَع: "أبشري يا أم العلاء فإنّ المرض إذا أصاب الله به المسلم أذهب خطاياه كما تُذهبُ النارُ خَبث الذهب والفضة" رواه أبو داود في سننه (3085) وحسّنه الإمام المُنذري.
3. عاطفتها النبيلة الإنسانية تُجاه الضعفاء والمكروبين والفقراء: وهذه صفة ضرورية للدعاة والداعيات، فكانت تستمع لحاجاتهم بل تبادر إلى السؤال عنهم وتهتم بتلبيتهم وقضاء حوائجهم وتسعد جداً بتفريج كُرَبهم، وكم من الحالات أتذكّر الآن أنها كانت تُلح عليّ لتأمين حاجة فلانة من النساء وتذكيري بطلب أخرى، لكِ من الله عز وجل يا أم علاء ما وعد به الحبيب صلى الله عليه وسلم: "واللهُ في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه" وبشارتُه صلى الله عليه وسلم: ((مَن فرّج عن مؤمن كُربة من كُرَب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على مُعسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة)) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
4. ثباتُها وعدم تبديلها: وأقصد ثباتَها على عدم مُمالأة وملاينة الظالمين والمُجرمين والمُفسدين في الأرض وأعداء الإسلام. فقد كانت تَكْرهُهُم وتنفِرُ منهم وكان نُصبَ عينيها قولُ الله عزّ وجلّ: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) وقولُه سبحانه في حق المُجرمين: (ودّوا لو تُدهِن فيُدْهِنون)! فلم تلِنْ لها قناةٌ طيلة مسيرتها الدعوية كما أعلم - والله شهيدُها - لا قبل الزواج ولا أثناء ثلاثين سنة من زواجنا مع صعوبة بعض الظروف التي مررنا بها من التهديدات أو الإغراءات. وعلى هذا ربَّت أخواتِها في الله عزّ وجلّ ونمَّت فيهم العزّة وعلّمتهم ما نقله الإمام عابدُ الحَرَمين شيخ الإسلام الفُضَيل بن عياض - وكان في عهد هارون الرشيد رحمه الله -: (كنّا نتعلّم اجتناب السلطان كما نتعلّم السور من القرآن) فيما رواه عنه الإمام الحافظ البَيْهقي في كتابه العظيم "شُعب الإيمان".
وتجلّى هذا الثبات في مسيرتها الدعوية كلها في مختلف تقلُّباتها وتنوُّع مراحلها وأثناء عهود الظلم والطغيان التي مرّت بالدعوة الإسلامية أو تُجاه إغراءات أهل الفساد والمُجّان.
5. الجَمْع بتوازن بين حقوق الزوج والاهتمام بالأسرة وأعمال البيت وبين هموم الدعوة وهداية النساء ومجالس العلم ومتطلَّبات البناء للذات وكذلك تلقّي حاجات النساء والسعي في قضائها.
6. عاشت لدِينها وأمَّتها: وهذا من جوانب العظمة فيها ودرس بليغ للمتديّنين والنساء منهم خاصّة أن لا يفهموا الصلة بالله عز وجل والتديُّن انعزالاً عن الناس بحجّة أننا لا نريد أن نُوجع رؤوسنا أو أنّ الناس لا يُعاشَرون!! وأقرب ردّ على هذه الخاطرة الشيطانية هي أننا نتحمل متاعب مصالحنا الدنيوية فهل نبخل على ديننا ودعوة ربّنا وحاجات المسلمين: (ومن يبخَلْ فإنما يبخَلُ عن نفسه)؟!!
وكل من شهد جنازتها الحاشدة رحمها الله عز وجل ظهر الثلاثاء 8 شعبان وامتلاءَ المسجد بالمصلين عليها مثل صلاة الجمعة جاؤوا شفعاء لها، ثم توافد الرجال والنساء بأعداد كثيرة عجيبة أيام العزاء، امتلأ قناعة ببركة الصدق مع الدين وخدمة الناس بتواضع، وبركة العيش في جماعة، وبركة العمل الدعوي والحمد لله.
وفي الختام أقول: تواترت الرؤى في كرامتها وهناءتها وسعادتها، وحصلت لها بفضل الله وكَرَمه وكثرة أفضاله وتواتر رحماته عدة كرامات أثناء مدة مرضها ولحظة وفاتها رحمها الله، وظهر عليها من علامات حُسن الخاتمة ما يملأ القلب أُنساً وطمأنينة لحالها إن شاء الله سبحانه وتعالى، فقُرِّي – يا أمَّ علاء - عيناً وطِيبي نفساً في رَوْح ورِيْحان في روضة نورٍ ورضوان
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين