كن مصدر أمان ... لبني الإنسان

كان من بين الصحابيات اللواتي حفرن أسماءهن في ذاكرة التاريخ بأحرف من نور تماضر بنت عمرو المشهورة بالخنساء رضي الله عنها ... كانت مشهورة في الجاهلية والإسلام ... أما في الإسلام فلأنها قدمت أربعة من الولد في معركة واحدة هي معركة القادسية ، ولما بلغها نبأ استشهادهم لم تُوَلْوِل ، ولم تُعْوِل ، بل قالت: الحمد لله الذى شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته، فكان عمر رضي الله عنه يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد مائتي درهم، حتى قُبِض رضي الله عنه.

وأما في الجاهلية فببكائها في شعرها ... بكائها أخاها صخراً يوم مات ... فرثته بشعر جزْل ما سبقت إليه من قبل ... وذاك أنها افتقرت ذات دهْر ... فشاطرها ماله مرتين رغم اعتراض زوجته ... 

فبكته لأنه كان بالنسبة لها مصدر أمان ... وكهفاً ضد نائبات الزمان ... وخير إنسان ذاك الذي يأمنه ويأمن به بنو الإنسان ... يفزعون إليه إن حزبهم أمر ... ويلجؤون لديه إن نابتهم نائبة ... فيواسيهم بماله أو بمقاله ... فيرضون بشكل أو بآخر .

ظل هذا المثل قائماً يضرب ويساق للناس ... حتى جاء خير الناس صلى الله عليه وسلم؛ فضرب أروع الأمثلة في الأمان ... لكل من حوله من البشر ... فقد كان المحور ... لكل من نزلت به نازلة ... زوجاَ كان أو صديقاً أو ولداً أو جاراً أو أياً كان موقعه من المجتمع .

قال البراء بن عازب رضي الله عنه : كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا الَّذِي يُحَاذَى بِه. رواه أحمد.

كان مصدر أمان لأزواجه:

تقول السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها وعن أبيها: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ قُبِضَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُمْتُ حَتَّى حَرَّكْتُ إِبْهَامَهُ فَتَحَرَّكَ، فَرَجَعْتُ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: " يَا عَائِشَةُ أَوْ يَا حُمَيْرَاءُ ظَنَنْتِ أَنَّ النَّبِيَّ خَاسَ بِكِ؟ - خاس : أي غدر بك - "، قُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ قُبِضْتَ لِطُولِ سُجُودِكَ. رواه البيهقي في شعب الإيمان.

كان مصدر أمان لجيرانه :

أبو ذر الغفاري رضي الله عنه قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» (رواه مسلم).

كان مصدر أمان للأطفال الصغار :

روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّه قال: (ما رَأَيْتُ أَحَدًا كانَ أَرْحَمَ بالعِيَالِ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ).

كان مصدر أمان للحيوان :

روى أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، قَالَ : أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ ، فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الأَنْصَارِ ، فَإِذَا جَمَلٌ قَدِ أتَاهُ فَجَرْجَرَ ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ - فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ ، فَسَكَنَ ، فَقَالَ : مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ : هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ : أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللَّهُ ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ.

كان مصدر أمان للجمادات ...

روى أحمد عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى أَتَاهُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ لَمْ أَحْتَضَنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

كان أماناً للجميع ... وتلكم هي المروءة ... وذاكم هو الرجل .

وليست المروء أن يخافك أولادك؛ فيفر كلٌ إلى غرفته إذا دخلت عليهم البيت ...

وليست الرجولة ألا تنبس الزوجة بين يديك بكلمة ...

وليست الزعامة أن تكون مرهوب الجانب بتقطيب الجبين، وأن تحمل وجه مُكْفَهِراً متجهماً عبوساً قمطريراً ..

وليست القوة في أن لا يأمن جانبك أحد ... فيتوقع منك الضر في كل لحظة ... بل القوة والمروءة والرجولة أن يُستعان بك على الدهر ... لا أن تكون والدهرَ على الضعيف ...

المروءة أن يهرب إليك لا منك .

ذكر أستاذنا الدكتور عبد الكريم بكار أنه قيل للحاضرات في محاضرة نسائية: لتكتب الآن كل واحدة منكن رسالة إلى شخص تعتبره الأول في حياتها.

وبعد أن انتهين من ذلك سُئلت إحداهن : لمن أرسلت رسالتك ؟ قالت : لابني.

قيل لها : هل يمكن أن تصفيه بكلمة واحدة ؟ قالت : سندي !

سندي ؟ كلمة تعني لصاحبتها الكثير ... فأن تعلَّق عليك الآمال من أحدهم في الشدائد والطوارئ فتلك الغاية التي لا مطمح وراءها .. فلا تخيب الرجاءات فيك.

ولقد قال أحد الشعراء في رجل أمَّل منه خيراً فلم ينله :

لئن أخطأت في مدحيـ *** ـك ما أخطأت في منعي

لقد أنزلت حاجاتي *** {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}

يقول الدكتور عبد الكريم بكار :

قد يكون للمرأة أولاد عدة ، ولكن واحداً منهم هو الذي تعتقد أنه يمكن أن تلجأ إليه عند الشدة ،فتقضي باقي عمرها معه في بيته .

قد يكون للمرأة عدد من الإخوة لكن واحداً منهم فقط هو الذي يخطر في بالها، وتعنيه فعلاً حين تقول لزوجها الذي شتمها وأهانها : أنا ذاهبة إلى بيت أخي .

قد يكون للواحد منا أصدقاء عديدون ، لكن واحداً منهم فقط هو الذي يخطر في باله حين يحتاج إلى من يذهب به إلى المستشفى الساعة الثالثة فجراً ، ويخطر في باله حين يحتاج إلى مال يقترضه في ظرف صعب .

فهنيئاً ثم هنيئاً لمن تناط به الآمال العراض من الأهل وذوي الحاجات ، وهنيئاً ثم هنيئاً لمن يعتقد الكثيرون أنهم في أمان ما دام موجوداً .

بشيء من التضحية وشيء من التخلي عن حظوظ النفس يمكن للمرء أن يكون سنداً لشخص واحد على الأقل ، فيكون أشبه بجندي باسل أصيب زميل له فحمله على ظهره ليبعده عن مرمى نيران العدو . انتهى كلامه حفظه الله .

فكن باباً يلج منه الناس إلى رياض السعادة ... ومصدر أمان واطمئنان ... على ما قال أبو الفتح البستي رحمه الله :

وكن على الدهر مِعواناً لذي أمل *** يرجو نداك فإن الحر معوان

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين