كشف اللثام عن كنز الجنان

ما هي القوة التي تملكها أيها الإنسان وأنت أضعف من الضعيف، وما هو الغنى الذي تملكه وأنت أفقر من الفقير، وعناصر الضعف والفقر ملازمة لك محيطة بك من كل جانب.

قال ابن تيمية:

أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسيكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده ياتي

لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس لي دفعَ المضرات

والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وما هي أسباب الدفع التي تدفع بها عن نفسك وعمن حولك، والأعداء محيطون بك من كل جانب من شياطين الإنس والجن، وأشدهم وطأة عليك نفسك التي بين جنبيك، إن النفس لأمارة بالسوء.

فالحيلة إذن في استلهام الدفع والمنع والقوة والعون ممن يملكها على الحقيقة، روى أحمد بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. قَالَ: أحْسِبُهُ قَالَ: يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ، وهذه هو الكنز النفيس تحوزه في الدنيا أولاً، وتجده مدخرا أوفر ما يكون في الجنة.

قال ابن حجر في الفتح: المراد أنها من ذخائر الجنة، أو من محصلات نفائس الجنة. وقال النووي: المعنى أن قولها يحصل ثوابا نفيسا يدخر لصاحبه في الجنة. فهذا القول ليس ذكرا تلوكه الألسن مجردا عن الحقيقة التي ينبغي يستشعرها المسلم؛ إنه حقيقة يعيشها المؤمن في كيانه و كل حالاته لا يستغني عنها طرفة عين.

لاحول ولا قوة إلا بالله .. منهج عملي و أسلوب حياة تعني إخلاص العبودية لله والتسليم لأفعال الرب، والمبالغة في الانقيادوقطع النظر عن العباد، وتفويض أمور الكوائن كلها لله، ويقين العبد أنه لا يملك لنفسه ولغيره شيئا، فلا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله، ولا حول في دفع شر وعدو، ولا قوة في تحصيل خير وأداء طاعة إلا بتوفيق الله. قال السيوطي في الدر المنثور: عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أي: لا حول بنا على العمل بالطاعة إلا بالله، ولا قوة لنا على ترك المعصية إلا بالله"

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم ويفقِّه ويغرس المعاني القلبية والعملية في نفوس صحابته حتى يدركوا أنهم إذا دفعوا العدو فإنما يدفعون بقوة الله وحوله، وإذا صالوا فإنهم يصولون ويسطون ويقهرون بقهر الله، فليس لهم من الأمر شيء سوى تنفيذ مراد الله، روى أبو داود بسند صحيح عن أنسِ بن مالكٍ رضي اله عنه قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إذا غَزَا قال: اللهم أَنْتَ عَضُدِي ونَصيري، بِكَ أَحُولُ، وبِكَ أَصُولُ، وبِكَ أُقاتِلُ.

قال الخطابي: أحُولُ: أحتال. قال ابن الأنباري: الحول في كلام العرب: الحيلة ... ومنه قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا حيلة في دفع سوء، ولا قوة في درك خير إلا بالله. قال: وفيه وجه آخر، وهو أن يكون معناه: المنع والدفع، من قولك: حال بين الشيئين: إذا منع أحدهما عن الآخر. يقول: لا أمنع ولا أدفع إلا بك.

وقال ابن الأثير: وبك أصول: أسطو وأقهر.

لا قوة لي يا ربي فأنتصر ... ولا براءة من ذنبي فأعتذر

والمداومة على هذا الذكر مع الاعتقاد الجازم والعمل تعطي القوة والمنعة والغلبة، قال ابن القيم: وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يُخاف، وركوب الأهوال.

تبرأت من حولي وطولي وقوتي ... وإني إلى مولاي في غاية الفقر

ويوضح ابن تيمية هذا المعنى بقوله: وليكثر العبد من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنه بها يحمل الأثقال، ويكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال.

وأدرك سلفنا الصالح هذه المعاني الكبيرة، فقد روى البيهقي في دلا ئل النبوة أن حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَانَ يَسْتَحِبُّ إِذَا لَقِيَ عَدُوًّا أَوْ نَاهَضَ حِصْنًا قَوْلَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَإِنَّهُ نَاهَضَ يَوْمًا حِصْنًا فَانْهَزَمَ الرُّومُ، فَقَالَهَا، وَقَالَهَا الْمُسْلِمُونَ؛ فَانْصَدَعَ الْحِصْنُ.

ولا طاقة للعبد على القيام بالتكاليف الشرعية إلا بحول وقوة وعون الله، فالفضل كله له ومنه، قال ابن تيمية رحمه الله : "وقول: ولا حول ولا قوة إلا بالله يوجب الإعانة، ولهذا سنها النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال المجيب: لا حول ولا قوة إلا بالله.

ومما هو جدير بالتنبيه إليه أن أكثر الناس لا أقول العوام بل كثير من المتعلمين يقولون هذه الكلمة على سبيل التضجر والتأفف والضيق خلاف ما شرعت له، ذكر ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: قَالَ الشِّبْلِيُّ بَيْنَ يَدَيْ الْجُنَيْدِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، فَقَالَ: الْجُنَيْدُ: قَوْلُك ذَا ضَيِّقُ الصَّدْرِ، وَضِيقُ الصَّدْرِ لِتَرْكِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ.

قال ابن تيمية: فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ سَيِّدَ الطَّائِفَةِ، وَمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيمًا وَتَأْدِيبًا وَتَقْوِيمًا.

وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ لَا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاعٍ، وَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَصَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ، وَيَقُولُهَا جَزَعًا لَا صَبْرًا.

حقا إن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة وهذه الكلمة تحوي من الأسرار والعجائب والمعاني ما يضيق عنه مثل هذا المقال.

ونسأل الله أن يحققنا ويتحفنا بهذا الكنز الثمين النفيس.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين