هم لا كالهموم

ما منا من أحد - آباء كنا أو أمهات - إلا وتؤرقنا قضية لا كالقضايا... ويقض مضجعنا هم لا كالهموم ... ويشغلنا عما سواه غم لا كالغموم ... .

إنه هم التزويج ... لا تزويج أنفسنا؛ فأغلبنا فاته القطار وتقدمت به الأعمار ، ولسان حاله يقول:

إن الشباب الذي مجد عواقبه *** فيه نلذ ولا لذات للشيب

ألا ليت الشباب يعود يوما ً*** فأخبره بما فعل المشيب

إنه هم تزويج الأولاد ... أبناءٍ أو بنات ... تزويج الابن من فتاة تسعده... وتزويج البنت من شاب يحبها ويقدرها ويحفظ عليها نفسها ودينها وقلبها وعرضها .

وإذا وازنا بين الهمين ... فهَمُّ البنات من المؤرقات ... من المزعجات ... بل هم البنات إلى الممات كما نقول في بعض الأوقات .

لأن البنت مخلوق ضعيف ... تخرج من عش درجت فيه إلى آخر لا تعلم عنه إلا النزر اليسير ... من بيت أنماها وأغلاها ... إلى بيت لا تدري ماذا يخبئ لها القدر بين جدرانه .

وإذا كان الابن يملك الحل الحاصل في الطلاق إن لم يوفق بالمرأة الصالحة ... فليست البنت كذلك إن لم ترزق بزوج صالح ... لأن الطلاق بيد الرجل عادة . 

وحتى لا ترجع بنتك يوماً إلى بيت أبويها مكسورة ... مهيضة الجناح ... لا بد لها أن ترتاح ... وراحتها في سعادة بيتها ... وسعادة بيتها في رجل قوي صالح يكون لها عبداً وتكون هي له أمة وخادمة .

وإذا كنا أيها السادة نطلب للمناصب رجالاً أشداء ... رجالاً أمناء ... رجالاً أقوياء ... يقومون بها على وجهها ... فأحرِ بنا أن نطلب لبناتنا كذلك ... الشباب الأكفاء ... الأقوياء.

أو لم تقترح بنت شعيب على أبيها أن يستأجر موسى لأنه قوي أمين ... قال لها أبوها: وكيف عرفت قوته وأمانته ... قالت : لأنه رفع صخرة لا يطيق رفعها عشرة رجال ... ولأنني لما دعوته لتجزيه أجر ما سقى لنا قال لي: لا تمشي أمامي؛ حتى لا تصيب الريح ثيابي فتجسد جسدي ... وأمرني أن أمشي وراءه وأدله على الطريق يمنة أو يسرة بالكلام أو بحصاة أرميها حيث أشاء.

القوة والأمانة في الزوج أكد عليهما عليه الصلاة والسلام : إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ، رواه الترمذي وابن ماجه .

وفي رواية إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض، فقالوا : يا رسول الله وإن كان وإن كان ؟ قال نعم .

أي وإن كان غنياً ... وإن كان حسيباً ، وإن كان نسيباً ، وإن كان جميلاً، قال نعم : وإن كان يتمتع بهذه الأشياء مجتمعة أو متفرقة فلا تفعلوا ... وزوجوا بناتكم من ذوي الدين وذوي الأخلاق.

وهاهنا نكتة لطيفة أيها السادة : لماذا فصَل عليه الصلاة والسلام بين الدين والخلق في هذا الحديث ... أو بين الأمانة والخلق ... أو ليست الأمانة من الأخلاق ؟ ألا كان يكفيه - بأبي هو وأمي - أن يقول : إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، أو ليس الدين هو الأخلاق وهي هو ؟ لما نص على الأخلاق مستقلة ؟

لكي يلفت الأنظار أنظار الآباء والأمهات المهمومين بتزويج بناتهم أن ليس بالدين وحده يحيا الإنسان بين بني الإنسان ...وليس إذا كان ديناً فهو يصلح لأن يكون زوجاً لبنت وتستمر الحياة في كنفه ... مع عظم الدين وأهميته واحترامنا صاحبه.

وليس إذا كان ملتزماً فهو مرضي المعاملة والأخلاق ... فقد يكون صائماً مصلياً ولكنه في باب الأخلاق ما له من خلاق ... قد يكون عالماً كبيراً لكنه ضيق العطن، زمن المروءة، بخيل، عصبي المزاج ليس له علاج .

والعكس أيضاً صحيح فقد يكون ذا خلق ولكنه ليس عالماً ... وخلوقاً لكنه مقصر في جانب الطاعة ...

فهذا لا يصح ... لا بد منهما معاً ... لا بد من دين مع خلق ... ليس أيِّ دين ... لا بد أن يكون ديناً مرضياً ... لا هزيلاً ... ولا مشوهاً ...وأن يكون خلقاً جميلاً وثابتاً ليس في أيام الخطوبة والأشهر الأولى من الزواج.

فإذا زوجت ابنتك من قليل الدين أو ضعيف الخلق فلا تلومن إلا نفسك ... واعلم أنك فتحت على نفسك وأسرتك ومجتمعك باب فساد عريض لا يغلق ... لأن المرأة حينها ستفسد بالرجل ... وهو بها ... والنسل من خلالهما ... والمجتمع من جرائه .

إنه يومَ ترفض الفقير لفقره مع أنه ذا خلق فأنت بذلك تسهم في خرق المركب ... وتشارك في ارتفاع نسب العنوسة ... وتدفع الشباب إلى ارتكاب الخطأ بطريقة غير مباشرة .... ويصدق فيك قول الشاعر :

فإلا تكونوا قاتليه فإنه *** سواء علينا ممسكاه وقاتله

أيها الكرام :

إن البوصلة في هذه المعضلة هي تلك النصيحة المجملة التي أشار بها الحسن البصري على رجل جاء يستنصحه قائلاً : إن لي بنتاً خطبها الكثيرون فممن أزوجها ؟ قال : زوجها من صاحب الدين؛ فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها .

إخوتي في الله من آباء وأمهات :

إن خير مهر يقدمه الشاب لابنتك أخلاقه الجميلات ... ولا عليك من فقره ... ولا تخش على ابنتك العوز .. إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ... ولكنه أمر يحتاج إلى يقين .

لا تقل هذا لا يتماشى مع الواقع .... ولا يتعامل به المجتمع ... بل أنا وأنت من سيغير ذاك الواقع ..

ولقد أدركت أناساً من واقعنا زوجوا بناتهم من فقراء لكنهم ذوي أخلاق مرضية ... ولم يتأثروا بالواقع ولم يسبحوا مع التيار ... ولنستذكر قول الشاعر :

قف دون رأيك في الحياة مجاهداً *** إن الحياة عقيدة وجهاد

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين