غيبة الفاسق .. أحكام وضوابط

الحمد لله الذي أنشأ فأحسن الإنشاء، وقدَّم وأخَّر كما شاء، واختار من العالم الإنسيِّ المرسلين والأنبياء، وصلى الله على سيِّدنا محمَّد أشرف راكبٍ نزل البيداء، وعلى أصحابه الذين نالوا بصحبته العلاء، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ، وسلم تسليما ًكثيراً. وبعد:

روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:" أترعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه كي يحذره الناس ". قال الحاكم، فيما نقله عنه البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمان:[ إنه غيرُ صحيحٍ ولا معتمدٍ]، ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الحسن البصريِّ، موقوفاً عنه.

وروي عن الحاكم بسندٍ ضعيفٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:" ليس للفاسق غيبة ". قال البيهقيُّ:[ وهذا إن صحَّ فإنما أراد به فاجراً معلنِاً بفجوره، أو هو ممَّن يشهد في أمور الناس، ويتعلَّق به شيءٌ من الديانات، فيحتاج إلى بيان حاله لئلا يُعتمَدُ عليه ]. 

وقوله صلى الله عليه وسلم:" أترعون عن ذكر الفاجر"، أي الذي يفجِّر الحدود، حدود الحلال والحرام فلا يقف عندها، بل يخرقها ويتعدَّاها معلناً غيرَ مبال ولا مستتِرٍ، والفجور اسمٌ جامعٌ لكل متجاهرٍ بمعصيةٍ أو كلامٍ قبيحٍ، يدلُّ السامع له على فجور قلب قائله. وفي رواية:" الفاسق "، وهو الخارج عن طاعة الله بمعنى المسلم العاصي، والمجاهر بفسقه كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر؛ ويقع الفسق بالقليل من الذنوب إذا كانت كبائر وبالكثير. ولمزيدٍ من البيان فإنَّ الفاسق هو من التزم حكم الشرع وأقرَّ به، ثم أخلَّ بجميع أحكامه أو ببعضها، فتارك الصلاة فاسقٌ عند كثيرٍ من العلماء وبعضهم يكفِّره وشارب الخمر فاسق ومرتكب المحرمات فاسق كالزاني، والديوث فاسق وهو الذي يرى المنكر في أهله ويسكت، فهؤلاء الفسقة وأمثالهم تجوز غيبتهم ليحذرهم الناس ويعرفوا حالهم. وقد يبلغ الفاسق حدَّ الإجرام يهادن الطغاة مثلاً ويقف في صفِّهم! ويغشَّ المسلمين في تعاملاته المادية، وليس من مهمتنا ولا مصلحة لنا، بتصنيفه وإخراجه من دائرة الإسلام، بل نشير إليه امتثالاً لقوله تعالى:" وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ". وهنا التمايز ضروريٌّ للتفرقة بين الصفوف وتباين الألوان بين من يقف مع الحق وأهله من الذي يقف مع الباطل وأهله.

ونصوص الكتاب والسنَّة، وكتب سلف الأمة صريحةٌ بتحريم الكذب والتدليس، والتنديد بالكاذب ولعنه وزجره، وكم من كتاب ألِّف في الوضع والوضَّاعين والكذب والكذَّابين لكشفهم وإسقاط حرمة أعراضهم، بطرحهم من حساب مجتمعاتهم!.

وأعرض هنا بعض الأدلة التي اتكأت عليها، فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:" ائذنوا له بئس أخو العشيرة ". متفق عليه. قوله: أخو العشيرة أي القبيلة. احتجَّ به البخاريُّ في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب.

وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً ". رواه البخاريُّ. قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث:[ هذان الرجلان كانا من المنافقين ].

وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت:" أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني؟.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أما معاوية فصعلوك - أي فقير - لا مال له. وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه ". متفق عليه. وفي رواية لمسلم:" فأما أبو الجهم فضرَّابٌ للنساء ". وهو تفسيرٌ لرواية:" لا يضع العصا عن عاتقه "، وقيل معناه كثير الأسفار.

قال الحسن رحمه الله:[ ثلاثة لا غيبة لهم، صاحب هوى والفاسق المعلِن والإمام الجائر ]. وهؤلاء يجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون. 

وأؤكد ثانيةً أن قوله صلى الله عليه وسلم:" يعرفه الناس "، أي ليعرفوا حاله فيحذروه، فليس ذكره حينئذٍ منهيِّاً عنه؛ بل مأمورٌ به لمصلحة المسلمين، وهذا الحكم يشمل الفاجر الميِّت أيضاً، ولا ينافيه النهي عن سبِّ الأموات، لأن السبَّ غيرُ الذكر بالشرِّ. والمنهيُّ عنه هو سبُّ الأخيار. وأخيراً ينبغي التنبيه على أمرٍ مهمٍّ، ألا وهو نصيحة الفسقة بأن يتوبوا ويرجعوا إلى الله تبارك في علاه، على أن يكون النصح ابتغاء وجهه سبحانه، لا لهوى الشخص، كأن يكون بينهما عداوةٌ دنيويةٌ أو تحاسدٌ أو تباغضٌ أو تنازعٌ على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهراً للنصح؛ وقصده في الباطن البغض في الشخص واستيفاؤه منه فهذا من عمل الشيطان، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، بل يكون قصد الناصح أن يصلح الله ذلك الشخص، وأن يكفي المسلمين ضرره في دينهم ودنياهم، ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه. يترافق معه الإنكار على الفسقة لما ثبت في الحديث من قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". رواه مسلم . والله أعلم وأحكم، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين