الحضارة الإسلامية ودورها القيادي للإنسانية

إن العالم العربي سفير الإسلام، ورسول الأمن والسلام، ورائد الحكمة ومشعل الثقافة والحضارة، ينظر إليه الإنسان كمعقل الإنسانية وموضع القيادة العالمية. إن العالم الإسلامي بمواهبه وخصائصه أهميته السياسية يستطيع أن يتقلد قيادة العالم ويزاحم الغرب وثقافته وينتصر عليه برسالته الإنسانية ويحول العالم من النار والدمار إلى الهدوء والسلام. 

لقد جعل الله سبحانه وتعالى العالم العربي مهبطا للرسالات السماوية ومعقلا للإنسانية وموضعا للقيادة العالمية. اختار الله العرب لنشر الإيمان بوصفهم أمة قائدة للعالم الجديد. إن الجيل الأول من المسلمين هم الذين غيروا وجه التاريخ وأثروا في الحضارة الإنسانية. فتح العرب نصف الأرض في نصف قرن. وإن العرب أصبحوا بفضل بفضل تعاليم الإسلام أصحاب الدعوة والرسالة وانقلبوا في داخل أنفسهم فانقلبت لهم الدنيا وعلموا أن الله قد ابتعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدينا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

إن تاريخ العرب حافل بالمغامرات، ولعل العرب أكثر الأمم مغامرة. وإن هذه المغامرات لها فضل كبير في بناء هذه الحضارة التي نعم في ظلها العقل والعلم والإنسانية. وكانت حضارتهم هي الحضارة المثلى التي تمجد الناس، ويتطرقون في تقليدها. لم يكن للعرب دور أساسي في تاريخ العالم وتاثيرهم على الحضارة العالمية قبل الإسلام. لقد مكن الإسلام العرب خلال حقبة وجيزة من قيادة أفضل تجربة حضارية إنسانية امتزج فيه الدين بالعقل وبالبناء الحضاري.

تحول العرب بعد ظهور الإسلام من أمة ضعيفة هزيلة إلى أمة قائدة في الحضارة الإنسانية. وتغير حال العرب المسلمين بعد ظهور الإسلام والانقلاب الحضاري العجيب والذي يعد لغز من ألغاز التاريخ. الإسلام فهو دين سماوي قائم على التوحيد، وحقق ثورة في حياة العرب في الماضي، وحضارة إنسانية كبرى. بفضل الإسلام تحول العرب من العزلة الخانقة إلى قمة الحضارية. برزت الأمة الإسلامية على المسرح العالم وهي تحمل ميزات اساسية وهي: الأتساع والانفتاح والإنسانية. وكان للعرب بفضل الإسلام دورهم القيادي في أن يهبوا العالم الهدوء والاستقرار لفترات طويلة من الزمن، إذ حرصت رسالة الإسلام أن تهب الإنسانيةحياة يتوفر فيها كل اسباب الأمن والسلام في كل بقعة أشرقت عليها شمسها وانبثق ضياءها. إن ازدهار حضارة المسلمين وقوتهم ومن ثم ضعفهم وانحطاطهم تابعا للمدد والجزر في الإيمان وقوة معنوياتهم التي تنبثق من الدين.

إن منبع قوة هذه الأمة في باطنها وهو القلب والروح. إن سر قوة المسلمين والإنقلاب الحضاري العظيم الذي لا يوجد له مثيل في التاريخ كان بفضل تعاليم الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم وأصبحوا أصحاب دين ورسالة، وبعثوا بعثا جديدا وخلقوا من جديد. كان ظهور الحضارة الإسلامية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها فصلا جديدا في تاريخ الإنسانية، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والاجتماع. انقلب به تيار الحياة واتجه به العالم اتجاها جديدا.(1) 

لم تكن على ظهر الأرض قبل الإسلام أمة نافعة ولا مجتمع صالح على أساس الاخلاق والفضيلة، ولا حكومة عادلة ولا أمارة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، لا قيادة مبنية على العلم والحكمة ولا سيادة ممثلة على أساس الحلم والتقوى. بزغت شمس الإسلام ومع حلوله قد ظهرت الحضارة الإسلامية بروحها ومظاهرها وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها يعد بابا جديدا في تاريخ الإنسانية، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والقيادة. فتغير به مجرى التاريخ وانقلب به تيار المدنية والحضارة واتجهت اتجاها جديدا. فالحضارة الإسلامية هي الحضارة النموذجية لأنها تتبنى على دعائم ثابتة من الإيمان والأخلاق. الحضارة الإسلامية هي الحضارة التي تتحدث في جزاء الأعمال وعقابها. وهي معجزة الإسلام أن الله قدر لهذه الأمة الإسلامية شريعة وقانونا وحضارة لاتزال ترشدها إلى الصراط المتقيم وتحل كل قضايها وتفك كل معضلاتها، وتفتح مغاليقها. ففيها دواء لكل داء، وعلاج لكل مرض، وترياق لكل سم.

الحضارة الإسلامية أنها حضارة انسانية خالدة كخلود الرساة السماوية. وقد ظهرت هذه الشمولية واضحة جلية في عطاء الإسلام الحضاري، فهو يشمل كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية كما أن الإسلام يشمل كل متطلبات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية. فالحضارة الإسلامية تشمل الأرض ومنة عليها إلى يوم القيامة لأنها حضارة القرآن الكريم الذي تعهد الله بحفظه وصيانته. الحضارة الإسلامية ليست جامدة وأنما ترعى كل فكرة أو وسلية تساعد على النهوض بالإنسان جميعا وتيسر لهم أمر حياتهم. مادامت تلك الوسيلة لا تخالف قواعد الإسلام وأسسه التي قام عليها، فهي حضارة ذات أسس ثابتة مع مرونة توافق طبيعة كل عصر من حيث تنفيذ هذه الأسس بما يحقق النفع للناس. إن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارات الأخلاقيات في التعاملات وجعلت الإنسان مادتها وهدفها وهي ملائمة بفطرة الإنسان.

امتازت الحضارة الإسلامية بحرية الضمير وأصبحت ذات صلة بالثقافات الأخرى تأخذ منها وتعطيها فكانت حضارة متميزة اكتسبت بذلك هذا المقام الرفيع من التاريخ الإنساني. تفتح الحضارة الإسلامية أبواب جديدة وميادين جديدة في مشارق الأرض ومغاربهها والميادين التي استعصت على غزاة الغرب ومستعمرية وثارت عليه، وتدخل أمم جديدة في الإسلام وهي أمم فتية في مواهبها وقوها وذخائرها،أمم تستطيع أن تعارض أوربا في مدنيتها وعلومها إذا وجدت إيمانا جديدا ودينا جديا وروحا جديدا ورسالة جديدة.(2) 

أسباب التدهور الحضارة الإسلامية:

ضعف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر في الدعوة والعقيدة والعقلية والعلم وبدا عليه الاعياء والشيخوخة، والإسلام لا يعرف الشيخوخة والكهولة، لأن الإسلام هو دين الإنسانية والرسالة الخالدة. إن الإسلام جديد كالشمس وقديم كالشمس وشاب كالشمس، ولكن المسلمين هم الذين شاهوا وضعفوا، فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير والانتاج، ولا عبقرية في لاالعقل ولا لاحماسة في الدعوة. 

فقد المسلمون روح الرسالة التي يحملونها، والتي قد اصبحوا بقوتها سيلا جارفا جبارا لا تقاومه الحشاش، ولا تقف في وجهه الصخور، وقوة المسلمين وروحهم دائما من الرسالة والدعوة، فأضحوا لا يحملون رسالة الإسلام إلى العالم، ولا يدعون دعوة دينية تنفخ فيهم الحماسة والفتوة، ويأتون بخوارق ومعجزات، وتفتح لهم هذه الرسالة قلوبا وعقولا، وتسخر لهم ممالك ودولا، وأصبحوا جيلا من الناس كسائر الاجيال، يرى ما يحدث في العالم من خير وشير وما يسود فيه من حق وباطل كمتفرج أو كعاجز ليس له من الأمر. فقدوا الإيمان والحماسة الدينية، ففقدوا القلوب التي كانوا يلقون بها عدوهم وسلاحهم الذي كانوا يقارعون به فيهزمون أضعافهم في العدد والعدد. فقدوا الأخلاق والفضائل التي كانت لهم قوة روحية وسلاحا ماضيا في معترك الحياة. 

ومن سوء الحظ أن احتل الأجانب ورجال غير أكفاء التراث الإسلامي وقد أصاب المجتمع الشرقي الإسلامي انحطاط في الأخلاق والاجتماع. ورث التتار والمغول تراث المسلمين وخلفوهم في الحكومة، وناهيك بؤسا وشقاء للإنسانية وخرابا للعالم أن يتولى قيادة العالم أمة جاهلية ليس عندها دين وعلم ولاثقافة ولا حضارة.(3) 

إن من أهم انحطاط الحضار الإسلامية وتخلفها في العصر الأخير هو فقدانها الثقة بنفسها. وهو من أشد الأمراض الاجتماعية وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على أمة إلا أودى بها إلى الفناء.(4) وما أصاب الأمة العربية والإسلامية من اليأس والقنوط كان من بين الأسباب الرئيسية لتخلف الأمة العربية وانحطاطها. 

إن الصراع بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية ليس صراعا بين حضارتين. بل هو الصراع بين حضارة وفلسفة في الحياة تقوم على المادية واللادينية، وبين حضارة يمثل التوحيد عمادها ومحورها الذي لا تقبل الدوران على غيره من المناهج والمذاهب والفلسفات. وإذا كان والوحي الإلاهي هو منبت الحضارة الإسلامية وأساسها.

إن أشد أنواع الصراع وأطولها وأعمقها ما خاضته الأمة ضد الغزو الفكري والثقافي، وهما أشد تأثيرا من الغزو العسكري، فأصاب الأمة العربية تشويه في الفكر الذي تحمله ولا سيما الموروث الضخم من العلوم الشرعية حتى أصبح المجتمع العربي الإسلامي فاقدا لحيويته ونشاطه وساده الركود والاستسلام فيطل جانب من جوانب الحياة بعد أن كان تاريخه الحضاري قد حقق تقدما كبيرا وازدهارا فائقا لم يسبق له نظير في بين الأمم والأقوام. إن فقدان الوعي لهذه الأمة جعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين. (5) إن من أبرز عوامل تدهور الأمة العربية والإسلامية هو نسيان المسلمين لماضيهم المجيد والابتعاد عن قيمهم الخالدة.

إن المجتمع الغربي من داخله يعاني من فراغ وجود أمة تحمل رسالة، وتحمل سيرة، صاحبة بصيرة ، صاحبة خلق، وهذا الفراغ لا يمكن أن تملأه إلا الحضارة الإسلامية التي تشبعت بنور الإيمان والقرآن. فكان لها أثر طيب في في قلوب الأمم لأنها كانت حضارة طبيعية عادلة قائمة أساس المساوات الإنسانية ومبدأ الرحمة بها.يرى الشيخ الندوي أن المسلم يعامل الحضارة الغربية بكل علومها ونظراتها واكتشافها وطاقاتها كمواد خام يصوغ منها حضارة قوية عصرية مؤسسة على الإيمان والأخلاق والعدل في جانب، وعلى القوة والإنتاج والرفاهة وحب الابتكار في جانب آخر، ولا يعامل الحضارة الغربية كشيئ قد تم تكوينه وتركيبه وهتم عليه فلا يؤخذ إلا برمته ولا يقبل إلا على علاته، إنما يأخذها كأجزاء يختار منها ما يشاء ويركب منها جهازا يخضع لغاياته وعقيدته ومبادئه نظام خلقه وما سلفه به دينه من منهج خاص للحياة. 

قيادة العالم الإسلامي من جديد: 

لا ينهض العالم الإسلامي إلا برسالته التي وكلها إليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم لأنه هو روح العالم الإسلامي أساسه وعنوان مجده، والدعوة والإيمان بها والاستماتة في سبيلها، وهي رسالة قوة واضحة مشرقة، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولاأيمن للبشرية منها. لو نهض العالم الإسلامي واحتضن هذه الرسالة ودان بها كالرسالة الوحيدة التي تستطيع أن تنقذ العالم من النهيار والانحلال. هذا هو الحل الوحيد للنهوض الأمة العربية والإسلامية. إن المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي يينظر بها الأوربي، وبغير العين التي ينظر فيها الوطن العربي، أنه ينظر إليه كمهد للإسلام ومشرق نوره، ومعقل الإنسانية، وموضع لالقيادة العالمية، ويعتقد أن الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم هو روح العالم العربي واساسه وعنوان مجده. (6)

إن العالم الإسلامي على ضعفه وانحطاطه مستعد ليكون قائدا للعالم كلها. إنه مستعد ليكون ذلك لأنه لا يزال مرتبطا ارتباطا وثيقا بالرسالة المحدية، إنه لا يزال متصلا بمنبع الحياة والقوة، ومصدر النور والفيض، إنه ليس كالأمم والمجتمعات البشرية التي انقطعت صلتها عن أصلها. يمكن للعرب قيادة العالم الإسلامي من جديد حين يلخصون للدعوة الإسلامية ويعودا العالم الإسلامي لقيادة العالم. 

وبالرغم من كل ما أصاب الأمة العربية الإسلامية من ضعف وانحطاط فأنها تبقي الأمة القادرة على النهوض من جديد بما تمتلكه من قوة ذاتية كامنة فيها وكما قال الرسول صلى الله ىعليه وسلم "ألخير في أمتي إلى يوم القيامة" هذا العالم الإسلامي في حاجة إلى بعث جديد، إنه ليس في حاجة إلى دين جديد، ولكنه في حاجة إلىى إيمان جديد بالحقائق الخالدة والرسالة الخالدة.

إن العالم الإسلامي يملك أعظم ثروة من الإيمان ولكنها ثروة دفينة تحتاج إلى إثارة واستثمار. يستطيع العالم العربي أن يعارض الغرب في مدينتها وعلومها وثقاتها وحضارتها إذا وجدت روحا جديدة ورسالة جديدة.إن العالم الإسلامي أن يضطلع برسالة العالم ويقود العالم من جديد بما يتمتع من مواهب وخصائص وحسن موقع جغرافي وأهمية سياسية لإنقاظ العالم كله من حالة الانحطاط ويضطلعوا العرب أن يقوموا بدور عالمي مؤثر كما شغلوه في عهدهم الأول ليردوا إلى الإنسانية اعتبارها وإلى العالم السعادة والسلامة. 

الهوامش: 

1 أبو الحسن علي الندوي: ماذاخسر العالم بانحطاط المسلمين، ص: 116، دار الغد الجديد، القاهرة عام 2005م

2 نفس المصدر: ص، 298

3 نفس المصدر: ص، 135

4 أرسلان شكيب: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم: ص، 142، بيروت عام 2004م

5 أبو الحسن علي الندوي: ماذاخسر العالم بانحطاط المسلمين، ص: 262، دار الغد الجديد، القاهرة عام 2005م

6 نفس المصدر: ص، 279

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين