مانُخفي وما نُعلن

 

في مواقف عديدة من حياتنا يطل الخوف مكشراً عن أنيابه مع حزمةٍ من العوارض: رجفةٌ في الصوت، تعرقٌ في اليدين، تسارعٌ في نبضات القلب، تشتُّتُ في الذهنِ وصعوبةٌ في التركيز و اتِّخاذ القرار. ولكن، ما أكثرَ ما يخافهُ البشر؟ وهل يمكن أن ننهزم بصورةٍ جماعيةٍ أمام حالة ما؟ كأن نستيقظ يوماً خائفين من الوحدة! أن تكون نهايتنا على سريرٍ باردٍ في ليلةٍ باردةٍ لايحيط بنا بشر. وأن تغيب شمسنا دون أن يشتاق لطلوعها أحد.

 

أنت عندما تريد أن تبوح بشئٍ ما، بفرحٍ او بحزنٍ، هل تجد شخصاً يشاركك ذلك الشعور - أم أنك تعيشُ بين 4 جدران (حتى مع وجود شريكٍ ربما)؟ هل تهتم بالجميع، ولكن بالمقابل لاتجد من يسأل عنك؟ إن طرق أحدهم بابكَ، هل تتفاجئ، تهرع لتعرف من الطارق؟ و ماذا يعني أن تكون وحيداً حتى وانت بين الجموع؟ ماذا عن جارك، هل تعرفت عليه أم أنه لازال شخصيةً مجهولةً لديك؟ هل شعور الوحدة يؤلمك فعلاً أم أنك تبالغ في وصفِ مشاعرك؟

يرى علماء النفس بأن الشعور بالوحدة إحساسٌ لاإرادي بالسلبية المفرطة، فأنت ترى الجميع بدونِ إبصارهم، و تسمع الجميع مع عدم الإنصات لأي أحد. هو بالضبط أن تعيش وسط أهلٍ لا يكترثونَ بوجودك وحاجتك لهم. ليس هناك حبيبٌ أو مؤنس. هو شعورٌ قويٌ بالملل وعدم الرغبةِ بالمشاركة بأي شيء. شعورٌ مخيف ويجعل صاحبه أكثر عزلة.

مسببات الوحدة كالشعور بالاقصاء والتهميش والرفض الاجتماعي والفشل في تحقيق علاقات صحيحة "مؤلمة حرفياً". فالجسم هنا يستعيرُ الجزء الخاص بالتعامل مع الألم الجسدي لاستخدامها مع الألم النفسي. إذا كنتَ ممن يعتقدون بأن السمنة أو التدخين هم أكثر مخاطر البشرية، أنصحك بإعادة حساباتك. تبين الدراسات بأن تأثير الشعور بالوحدة يعادلُ تدخين 15 سيجارة يومياً وزمن معافاتهم من الأمراض يطول بمراحل، وحتى أن احتمال وفاة هذا الشخص باكراً تكون أعلى. عدا عن أثرها على الذاكرة والتركيز.

ليس الأفرادُ وحدهم من يعيشون مشاعرَ الوحدةِ فحسب، بل الأممُ والشعوبُ كذلك. قد يكون قدرهم أن تصاحبهم الوحدة (وحدة جماعية). ففي عام 2017، قامت رئيسة وزراء بريطانيا وفي حادثةٍ هي الأولى من نوعها على الاطلاق بإصدار قرارِ استحداث (وزارة شؤون الوحدة) Ministry of Loneliness وذلك للإهتمامِ بالصحة النفسية والعقلية للشعب البريطاني. فبعد أن قررت بريطانيا الخروج من الاتحاد الاوروبي، ظهرت دراسات وتقارير نشرتها مجلة (PLOS 1) تفيد بأن 9 ملايين مواطنٍ بريطاني يعانون من الوحدة، 34% من البيوت يسكنها شخصٌ واحد، 51% من الاشخاص الذين تجاوزت أعمارهم ال70 يقطنون منازلهم بشكلٍ فرديٍ، وأن هناك أكثر من 200 ألف مسن يجري محادثةً واحدةٌ فقط كل شهر و40% من الأطفال الذين تتراوح اعمارهم بين 16 و 24 يشعرون كثيراً بالوحدة، فهم يشعرون بالحزن ولا أحد يفهمهم بالاضافة الى كونهم غير قادرين على التكلمِ مع أحد.

الوحدة قد تتحول الى وباء، ففي اليابان أكثر من مليون ياباني يعاني من الانعزالِ الاجتماعي في المرحلة العمرية ما بين 15 و30 سنة، أغلبهم من الرجال ويتصفونَ بالعداء الشديد مع العائلة. يطلقُ على هذه الفئة كلمة: هيكوكوموري.

أما وطننا العربي والاسلامي قد لا يكون أفضل حالاً (مع غيابٍ تام للدراسات)، فإيقاعُ الحياة المتسارع والتغير الهائل في مفاهيم "صلة الرحم" و "التكافل الاجتماعي" عموماً وتحوله من القدسية الى الفتور، ينذر بانتقال هذا الوباء إلينا شئنا أم أبينا.

 

عالم الأعصاب المبدع جون كاسيوبو في كتابه "الوحدة: الطبيعة البشرية والحاجة إلى التواصل الاجتماعي" يقترح حلاً لمشكلة الوحدة مكوناً من 5 خطوات: 

أولاً: اخرج من منطقة الراحة الخاصة بك ولاتخجل من طلب المساعدة من المتخصصين.

ثانياً: انضم إلى النوادي التي تنظم النشاطات الاجتماعية واختر دائرتك بعناية.

ثالثاً: قلل الوقت الذي تقضيه على مواقع التواصل الاجتماعي. 

رابعاً: غير من طريقة تفكيرك بأن تجعلها أكثر ايجابية وانفتاحاً وابتعد عن السلبيين. خامساً: مارس الرياضة واجعلها من أولولياتك.

 

 

الفنانة فيروز غنت عن الوحدة كما لم يغنِ أحدٌ مثلها من قبلُ في أغنية "قديش كان في ناس" تقول: وأنا بأيام الصحو ماحدا نطرني.

ختاماً، قد تسيطر الوحدة على حياتنا من حينٍ لآخر، فتكبل ألسنتنا عندما يجب أن نتكلم وتجرنا للوراء عندما يجب أن نتقدم وتجبرنا على ان نعيش حياةً ناقصةً بدون ثقةٍ أو يقين. حاول ان تجعلَ من وحدتك درعاً يحصنك من تشتت الأفكار.

اعرف قيمتكَ وأنصت لذاتكَ، بل تصالح معها وكن رفيقاً لنفسك، فهناك أوقات لن تجد فيها رفيقاً.

الوحدةُ كالوشم، بَدَلَ أن تُزيلَه، تعايش معه.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين