تعجب الطير مني أن لا أطير

قالوا: ما لك فرحا هذه الأيام فرحا قلما عهدنا منك مثله؟

قلت: أوحشتني المعالي، وآنستني المخازي، وساءني ليلي ونهاري، فدعاني ربي ضيفا له، وعزمت على الاعتمار، وقرب الموعد فداخلني سرور لا ينعت، وتغلغلت في أحشائي غبطة لا تقاس بغبطة، أراقب الوصل والوصل محبب، وأغالب الشوق والشوق أغلب، ويبعث الحنين في روحا جديدة ونشاطا غريبا، كأن في الجسم نفسا لا تشيب بشيبه، وأمشي وقدماي لا تلمسان الأرض، بل وتعجب الطير مني أن لا أطير، ويستغرب المتبخترون أن لا أتبختر أو أتيه، باديًا هواي صبرتُ أم لم أصبر، وباسما قلبي افترَّت أسناني أم لم تفترّ.

قالوا: رأينا الحجاج والمعتمرين وليس لهم من سعادتك حظ ولا من طربك نصيب. 

قلت: بلى، ألم يبلغكم خبر الشاعر الفيلسوف الهندي محمد إقبال؟ لم يماسّ أرض الحجاز إلا بقوة خياله، وسحر شعره، وحنين قلبه، يقول أبو الحسن علي الندوي: لقد قال محمد إقبال هذه الأبيات وهو يتخيل أنه مسافر إلى مكة والمدينة – شرفهما الله - يهوي به العيس، ويسير به الركب على رمال وعساء، يتخيل بشدة شوقه وحبه أنها أنعم من الحرير، وأن كل ذرة من ذراتها قلب يخفق، فيطلب من السائق أن يمشي رويدا، ويرفق بهذه القلوب الخفاقة، ويحدو الحادي بما لا يفهمه، فتثور أشجانه، وتترنح أعطافه، وتهيج شاعريته، وتنطلق قيثارته بشعر رقيق بليغ".

قالوا: زدنا من شعره الحجازي الذي ينم عن شوقه وحبه.

قلت: يقول: "لقد توجهت إلى المدينة رغم شيبي وكبر سني، أغنّي وأنشد الأبيات في سرور وحنين، ولا عجب فإن الطائر يطير في الصحراء طول نهاره، فإذا أدبر النهار وأقبل الليل رفرف بجناحيه وقصد وكره ليأوي إليه، ويبيت فيه".

قالوا: ما الذي يستهوي قلبك في أرض الحجاز؟ 

قلت: ثلاث خصال، قالوا: ما هن؟ قلت:

الأولى: حبي لإبراهيم الخليل عليه السلام وغرامي به، فمكة تذكرني بحنيفيَّته وقربانه، وهو معنى الإسلام، وفيها البيت العتيق الذي رفع إبراهيم قواعده وإسماعيل عليهما السلام، مبارك البيتُ وركناه، وميمونة مروته وصفاه، تعشقه القلوب وتهواه، ما أطيب الطواف به وأحلاه، وما ألذه وأهناه، أطوف به وكأني طائف بعرش الرحمن، ومتواكب مع الصالحين في الجنان، وكأن الله يتخايل بين عيني، وأشهد نعماءه وأياديه، وهو أكرم الأكرمين، وهو الودود الرحيم، وتتصاغر في قلبي الطواغيت والجبابرة، وتضعف في نفسي الأهواء والشهوات، وتزول عني الهموم والغموم، وتقضى عني حاجاتي، وتجاب دعواتي، وتغشاني السكينة، وتفيض علي الرحمة، لا شيء يشبه الطواف إلا الصلاة، ولعل الحضور في الطواف أقوى، فلم يحظر فيه ما حظر في الصلاة، فوا شوقي للطواف، وذا شوق تتقاصر عنه العبارات، وكلما خرجت من محطي للطواف أرى قلبي قد سبقني إليه، وأعود منه وكأني قد خلفت فؤادي ورائي.

الثانية: زيارة المدينة المنورة بنور الوحي والهدى، وهي طيبة عم الوجود سناها، غمرت الخلق ريا شذاها، كان جبريل بالآيات والحكم يغشاها، المدينة الفيحاء التي عاشها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، صفوة خلق الله، اختاره إماما للناس وأسوة، فيها منازله وآثاره، وأحاديثه وأخباره، وفيها سلع والجبل المبارك الذي كان يبادله حبا وحنانا، ومسجده الذي أوى الصالحين الأبرار، وأصحابه الأخيار رضي الله عنهم، لله سر في علاهم، ملأوا الدنيا رأيا وحكمة، وتقوى وصلاحا، وزهدا وورعا، لولا كونهم في الناس لكانوا هراء كالكلام بلا معان، وعدوهم مذموم بكل لسان، إنها مدينة القرآن والسنن والدعوة والجهاد، ولَبقعة تنبت العز بقعة طيبة، ولَبلدة تصدر منها الكرامة بلدة أثيرة، أوافيها وكل خطوة من خطاي تهيج فؤادي، وأودعها وكأن النفس تزهق.

والثالثة: أحبة لي في الحجاز، وهبتهم خالص ودي، مفاخرهم بنفوسهم وأفعالهم، والمكارم ترحل معهم كلما رحلوا وتنزل معهم كلما نزلوا، وصنائع من تلد الكرام كريمة، يجتمعون على العلم والدين ويفترقون عليهما، يدارسون الجوامع والسنن والمصنفات، والمسانيد والمعاجم والمشيخات، والأجزاء العوالي والمسلسلات، ويجالسون مالكا وشعبة وحمادا وسفيان، ووكيعا وابن المبارك وابن مهدي والقطان، ويراجعون الدارقطني والحاكم والبيهقي، والخطيب وابن عبد البر والسلفي، وابن عساكر والسمعاني، والحجار وابن البخاري، ويباحثون المزي ذا الضبط والإتقان، وعلمًا متحدرا من حران، والبرزالي وذهبي الزمان، ويؤاخون العراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي، والكوراني والدهلوي والبلجرامي، والشوكاني وذا النفس اليماني، ويذاكرون أثبات ابن عابدين والأمير والكزبري، والفهرس والدليل واليانع الجني، كلما شهدتهم لم أسمعهم إلا ويرددون: حدثنا أو أخبرنا وما يروى معنعنا، أو إجازة أو مناولة أو مسلسلا، كلمات تعلق بها القلوب وتسبى بها العقول وتصغى إليها الآذان، لا أمل صحبتهم ولا أسأم حديثهم، عربية ألسنتهم، فلسفية آراؤهم، هندية عقولهم، وفارسية أعيادهم، هم من جميع الناس أطيب نهارا، وألذ بياتا، وأربح تجارة، لِتعلم مصر والهند، وأهل العراق والشآمات، ومن بالمغرب وخراسان، ومن بالعواصم وسائر البلدان أنهم المعول عليهم في السماع والإسماع، وهم عمدة الخلق في الإجازة والرواية، وضبط أسماء الرجال والفقه والدراية، تعجز الفحول البيض أن تجاريهم، وتعيا النجوم الشوابك أن تساريهم.

قالوا: لقد خصك الله بنعم منه جليلة وأياد سابغة.

قلت: نعم، إن آلاء الله عليَّ لا تعد ولا تحصى، حملتني شكرا طويلا ثقيلا لا أطيق به حراكا، وأدعو ربي أن يتم لي عمرتي، ويبارك لي في قصدي، وأن لا يجعل ذلك ببيته آخر عهدي، وأن ينعم علي بالوصال بعد كل فراق، والأَمَّ بعد كل انصراف.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين