معضلات في أساليب التّدريس في كليّات الشّريعة

الأستاذ الجامعيّ هو آخر أستاذ يضطرّ الطّالبُ للجلوس بين يديه والتّلقي عنه مما ‏يحمّله مسؤوليّة أكبر، وطالب الكليّات الشّرعيّة يختلف عن غيره من طلاّب العلوم ‏الإنسانيّة بأنّه مضطرٌّ ليتعامل بمعارفه وعلومه الشّرعيّة مع المجتمع بشرائحه المختلفة فور ‏تخرّجه، كما أنّه سيواجه مستجدّات في المسائل والقضايا التي يولّدها تطوّر المجتمع كلّ ‏يوم.‏

إنّ من أهمّ غايات التّعليم والتّدريس هي تطوير القدرات التي تجعل الطّالب قادرًا في ‏مرحلة ما بعد الجامعة على البناء الذّاتي المتجدّد للمعرفة، بإدخال المعارفِ إلى عقله ‏وفكره ومعالجتها ثمّ إخراجها للنّاس علمًا صافيًا سائغًا للنّاس.‏

غير أنَّ واقع التّدريسِ في عددٍ لا بأس به من كليّات الشّريعة لا يسرُّ قلبًا ولا يجبر ‏خاطرًا إذ تتسربل أساليب التّدريس بمعضلات عديدة من أهمّها:

• هيمنة الأسلوب الإلقائيّ واستبداد المحاضرة

من أكبر المشكلات التي يعاني منها تدريس العلوم الإنسانيّة في الجامعات اعتماد ‏أسلوب الإلقاء والتّلقين، واعتبار أسلوب المحاضرة هو الأسلوب الأمثل لتلقّي العلوم.‏

إنّ استبداد الإلقاء وأسلوب المحاضرة يقتل في الطّالب الدّافعيّة للتعلم، كما أنّه يقتل ‏فيه روح الإبداع والابتكار والتّجديد.‏

كما أنَّ الاعتماد بشكلٍ رئيسٍ على المحاضرة يقتل في الطلّاب روح التّعاون لتحقيق ‏الإنجازات المشتركة، وهذا التّعاون هو ما يحتاجه خريجو الكليّات الشرعيّة حين ‏ينخرطون في العمل المجتمعيّ.‏

إنّ أسلوب الإلقاء والمحاضرة يجعل المدرّس هو المحور في عمليّة التّعليم والتّعلّم، بينما ‏ينبغي أن يكون الطّالب هو المحور في هذه العمليّة عمومًا، لا سيما في كليّات الشّريعة ‏إذا أردنا للمتخرّجين أن ينخرطوا في المجتمع ليكونوا أدوات تغيير وتأثير حقيقيّ.‏

إنَّ الانتقال من أسلوب التّلقين والمحاضرة إلى أسلوب المشاركة بين الطلاب، وتمليكهم ‏مهارات الإنجاز المشترك في العمليّة التعليميّة؛ بحيث يشترك أطرافها كلّهم في التّحضير ‏والإنجاز والتّقويم؛ يغدو مطلبًا مُلحًّا للخروج من حالة التّكديس المعرفي التي يعانيها ‏طلّاب العلوم الشرعيّة.‏

إنَّ الانتقال إلى أسلوب المشاركة بين الطّالب وأستاذه ابتداءً من التحضير إلى التّقويم ‏هو الذي يجعل خريج كلّية الشريعة قادرًا على التّعامل الأمثل مع النّص الشرعي ‏والمعارف الشرعيّة في مواقف مجتمعيّة خارج أسوار الجامعة.‏

• التّمحورُ حول الحفظ وضعف المحاكمة والنّقد

لا يمكن لطالب العلوم الشرعيّة أن يستغني عن الحفظ على الإطلاق، فالتمكّن من ‏الحفظ والبراعة في الاستذكار والاستحضار هو البوّابة التي يلج منها طالب العلوم ‏الشرعيّة إلى ميادين الإبداع.‏

غير أنّ الكارثة تكمن عند تخيّل أن الحفظ هو غاية ما على الطّالب الجامعيّ فعله؛ ‏فيبقى الخرّيج عالقًا عند قنطرة حفظ المتون والشّروح والمنظومات والكتب والمؤلّفات لا ‏يجاوزها إلى غيرها لأنّه لا يملك أدوات المحاكمة والنّقد.‏

وهذا ما عبّر عنه الشّيخ محمّد عبده حين قيل له: إنّ فلانًا حفظ صحيح البخاريّ؛ ‏فقال: زادت نسخة من صحيح البخاري في البلد.‏

وكذلك نقل مثل ذلك عن الشّيخ علي الطّنطاوي حين قيل له: إنّ فلانًا حفظ ‏القاموس المحيط؛ فقال: زادت نسخ القاموس المحيط نسخة.‏

فليسَ في هذه الأقوال ذمّ لعمليّة الحفظ بل هو ذمٌّ للتمحور حول الحفظ الذي يجعل ‏طالب العلوم الشّرعيّة نسخة مصوّرة من الكتاب الذي يحفظه ليس أكثر.‏

فالمهمّ هو امتلاك مهارات الفهم والتّحليل والاستنباط في التعامل مع صحيح البخاري ‏أو القاموس المحيط أو غيرهما من الكتب.‏

وقد تكون المبالغة في مطالبة الطلّاب بالحفظ "الفوتوكوبي" بهذا الشّكل مفهومةً في ‏أزمنةٍ سالفة حيث ندرة الكتب وقلّة النّسخ.‏

لكن لم يعد مقبولًا أن تستمرّ المبالغة بالتمحور حول هذا الأسلوب إلى اليوم في عصر ‏الانترنت والاتصالات والتفجّر المعلوماتي الذي يتطلّب الانتقال إلى تمليك الطلّاب ‏مهارات التّعامل مع المعلومات التي تتطلّب تمليك الطّلاب أدوات البحث والمحاكمة ‏النّقديّة، ومهارات التّحليل والاستنباط والاستدلال، والتّنزيل على الواقع تنزيلًا لا ‏تكلّف ولا شطط فيه.‏

إنّ وضع الأسوار حول التّراث العلميّ من جهة، ورسم الهالة حول الشّخصيّات العلميّة ‏القديمة والمعاصرة حدّ القداسة يحول دون امتلاك الطلّاب جرأة خوض غمار البحث ‏الحقيقيّ القائم على القراءة النقديّة وإعمال العقل البحثي النقديّ في رحاب الجامعة.‏

‏ إنّ بناء ملكة النقد والمحاكة المنهجيّة في رحاب الجامعة خيرٌ من التّخرّج بقدراتٍ نقديّة ‏لا تؤهّل صاحبها للتعامل مع وقائع المجتمع.‏

كما انّه خير من ترك الخرّيج للشطط في المحاكمات غير المنضبطة بقواعد البحث ‏العلمي عند اضطراره لفعل ذلك تحت ضغوط حاجة المجتمع في مرحلة ما بعد الجامعة.‏

• خفوت التأهيل التّدريبي والمهاريّ

إنّ ضعف الجانب التّدريبيّ واضح للغاية في أسلوب التّدريس في كثيرٍ من الكليّات ‏الشّرعيّة، ممّا يجعل الطّالب يواجه المجتمع بكميّات كبيرة من المعلومات ومهارات ‏ضعيفة في التّعامل مع هذه المعلومات من جهة، وضعف في التّعامل مع المجتمع ‏بشرائحه المختلفة من جهة أخرى.‏

إنّ تأهيل الطالب على مهارات وأساليب الدّعوة الفرديّة والجماعيّة لا يقلّ أهميّة عن ‏تدريسه فقه الدّعوة، وكذلك تأهيل الطّالب على صناعة الفتوى لا يقلّ أهميّة عن ‏تدريسه شروط المفتي والمستفتي، وتأهيل الطّالب وتدريبه على التّعامل مع المستجدّات ‏لا يقلّ أهميّة عن تعليمه مسائل الفقه المقارن.‏

إنّ تأهيل وتدريب طالب العلوم الشرعيّ على أدوات التفكير والتّخطيط والعمل ‏الجماعيّ لا يقلّ أهميّة عن تدريسه فضائل الأخذ بالأسباب ووحدة الأمّة.‏

وإنَّ تدريب الطلّاب وهم في رحاب الجامعة على مواجهة مواقف المجتمع من خلال ‏استحضار المواقف المتوقّعة ورسم سيناريوهات التّعامل معها لا يقلّ أهميّة عن تدريسهم ‏تاريخ التشريع الإسلاميّ؛ فكم هم بحاجةٍ إلى التّأهيل على مواجهة المستجدّات في ‏مستقبل عملهم الإسلامي.‏

إنَّ التّدريب اليوم لم يعد ترفًا معرفيًّا بل حاجةً لكلّ من يريد أن يمارس التّأثير ويحقّق ‏التغيير في واقعه ومجتمعه.‏

• معضلات في مواجهة المعضلات

إنّ أوّل ما يتعذّر به كثيرٌ من المدرّسين والقائمين على الكليّات الشرعيّة عادةً عند ‏الحديث عن هذه المعضلات؛ هو أنَّ كثرة عدد الطلّاب وقلّة الإمكانات لا يسمحان ‏بالخروج من المعضلات السّابقة.‏

أجلّ إنَّ العدد الكبير للطلّاب في الكليّات الشرعيّة عمومًا، وقلّة الإمكانات معضلات ‏حقيقيّة؛ لكنّها ليست المعضلة الأكبر.‏

إنّ المعضلة الأكبر تكمن في الاكتفاء بالكفاءة العلميّة على حساب الكفاءة ‏التدريسيّة للمدرّس نفسه.‏

فليس هناك معضلةٌ أكبر من ضعف الإمكانات والمؤهلات التعليميّة عند عددٍ لا بأس ‏به المدرّسين الجامعيّين الذين يملكون كفاءةً علميّة متميّزة وإخلاصًا وتفانيًا؛ لكن مع ‏غياب التّأهيل المستمر بطرق التدريس والتّأهيل الحديثة والمتطوّرة.‏

إنّ معضلة الإمكانات ليست ذات بال حقيقيّ عندما تملك الجامعات الإرادة لتأهيل ‏المدرسين وتدريبهم؛ فإنَّ فاقد الشّيء لا يعطيه ولا يشعر بقيمته أو أهميته وضرورته.‏

إنَّ إجراء مراجعات شاملة يشترك فيها خبراء متخصصون في أساليب تدريس العلوم ‏الإنسانيّة مع القائمين على الكليّات الشرعيّة واتّخاذ قرارات جريئة وملزمة للطّاقم ‏التّدريسيّ؛ هو الكفيل بإيجاد صيغ أكثر فاعليّة وتأثيرًا في تدريس العلوم الشرعيّة ضمن ‏ما هو متاح من الإمكانات والبيئات الجامعيّة القائمة.‏

‏ وعلينا أن نزداد يقينًا بأنّنا إن لم نطوّر أساليبنا التدريسيّة في كليّات الشريعة فلن نجد ‏لنا مكانًا حتّى في ذيل القافلة؛ فالقافلة التي تسير لا تنتظر المراوحين في أماكنهم.‏

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين