فلما نسوا ما ذكروا به

خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب


 للقلوب تقلباتها، وإقبالها وإدبارها، وظلمانيتها ونورانيتها.. وإذا علمنا هذا أدركنا ضرورة تعريضِ الإنسان قلبَه للتنوير، وضرورة وضعِه نفسَه في محلّ التذكير.
ولن تزالوا بخير طالما أنكم تلتمسون مَن يذكّركم بالله، ولا يبقى في الإنسان خيرٌ حينما يُعرِض عن التذكير، وحينما يُقفل منافذ قلبه عن دخول الأنوار.
لقد جُبل الإنسان على الخطأ فقد قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ).
لكنه حينما بيّن هذه الحقيقة دلّنا على طريق الخلاص فقال: (وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
وكيف تكون التوبة من غير تنوير أو تذكير؟
وهكذا فإن الفيصل والفرقان بين من بقيت في قلبه بقية خير ومن أصبح من المعرضين والمتجبرين والمتكبرين: القابليةُ والاستعداد لسماع التذكير.
ألم يقل ربّنا لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذارايات: 55]؟
وفي مقابل هذا ألم يقدِّم لنا القرآن الكريم صورة نموذجٍ مُعرِضٍ مُستكبر مُتجبر لا يقبل التذكير والتنوير؟
أما قرأتم قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة: 206]؟
وذلك لأنه لا يقبل التنوير ولا التذكير، ولأنه قد تبنى سبيل الشيطان، وأعرض عن طريق الرحمن.
وهكذا أقول للشباب، وللكبار، ولمن يجد أنه قد دخل في طريقٍ توهّم أنه مسدود: طريق الله تعالى مفتوحة طالما أنك قابل ومستعدٌّ للتذكير، فإذا دخلت في قفص الاستكبار أعرضت عند ذلك عن التذكير والتنوير.
ولقد كان في سلفنا من النماذج الكثيرة التي فضلاً عن قبولها للتذكير كانت تطلب التذكير:
فكان المتعلم يطلب من معلمه أن يذكره بالله وأن يعظ قلبه، وكان الأقران يطلب بعضهم من بعض التذكير بالله والموعظة التي ترقق القلوب وتهديها إلى سواء السبيل، بل وكان الأمراء والخلفاء يطلبون من رعيّتهم أن يقوموا بالتذكير والتنوير والموعظة لهم.
وأقتبس لكم بعض النماذج التي تؤيد هذا المعنى وتؤكده:
فقد أخرج الإمام أحمد والحاكم وابن عساكر أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عظني..
هكذا يطلب المتعلم من معلمه، وسيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم معلمُ المعلمين، وأستاذ الأستاذين، وسيد العالمين.. وهو القمر الذي به أصبح لِليلِ الدنيا منيرًا: وفي الليلة الظلماء يُفتقَد البدرُ.
قال: يا رسول الله عظني.
فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ).
وهكذا أوجز الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم موعظته في كلمات مختصرة فقال: "صَلِّ صَلاةَ مُوَدِّعٍ" أي: اجعل صلاتك التي تصليها في اعتقادك آخرَ صلاة في هذه الدنيا، وسوف تفارق الدنيا بعدها إلى الآخرة.
فضع نفسك في هذا الحال، وقل: هذه آخر صلاة أصليها في الدنيا قبل أن أرحل إلى الآخرة، فإذا وضعت نفسك في هذا الحال رقّ قلبُك، وزال استكبارك، وانطرحْتَ في عتبات الله مستغفرًا تائبًا، لأنك راغبٌ في أن تُطوى صحائفك نظيفةً وأنت تائب ومُقبِل على الله.
وهكذا جاء المتعلم يطلب التذكير والتنوير.
وأختار لكم بعد ذلك مثالين اثنين:
أما الأول فهو: طلب الأقران بعضِهم من بعض تذكيرًا وتنويرًا.
وأما الثاني فهو: طلب الأمير من رعيّته التذكير والتنوير.
1- طلب الأقران بعضِهم من بعض تذكيرًا وتنويرًا:
وأنقل لكم ما رواه الحاكم رحمة الله عليه، حين قال سيدُنا عمر لسيدنا عليّ رضوان الله عليهما وعلى أصحاب رسول الله أجمعين: عظني يا أبا الحسن.
عمرُ البَكّاء.. عمرُ الذي يمتلئ قلبه خشية وخوفًا.. عمرُ الذي لا يحكم إلا بالعدل.. عمرُ الذي يخاف أن يحاسبه ربّ العالمين على شاةٍ تزل قدمها على شاطئ الفرات وهو في المدينة...
عمرُ هذا يطلب التذكير والتنوير من سيدنا عليّ رضي الله عنهما، فيقول سيدنا عليّ:
- لا تجعل يقينَك شكًّا:
فأنت على يقين في ثوابتك، وفي عقائدك، وفي مبادئك، فلا تحوّل يقينك إلى شكّ، فوعدُ الله تبارك وتعالى لا يتخلّف، فإذا قرأت آيةً في كتاب الله تبارك وتعالى ورأيت فيها وعدًا من الله فإياك إياك أن تشك في الوعد.
- ولا علمَك جهلاً:
والفيصل بين العلم والجهل إنما هو تبديلُ الإنسان مصادرَ معلوماته من المصادر اليقينية إلى المصادر الوهمية.
واليومَ ما أكثر ما يَقبل الناس معلومةً مِن قيلَ وقال، والله سبحانه وتعالى يقول: "فَتَبَيَّنُواْ"!
وما أيسر أن يقبل اليوم إنسانٌ مسلم منتسب إلى الإيمان معلومةً لكن من غير أن يتحقق أنها معلومة يقينية!
- ولا ظنَّك حقًّا:
فأنت ظننتَ في قلبك، ثم بنيتَ على ظنونك هذه وجعلتها منطلقًا..
وكم نرى هذا فينا!
فيظن الإنسان ظنونًا، ثم يبني على ظنونه، ثم يُصدر الأحكام بناءً على ظنونه تلك..
وهذا نموذج رفيع للتذكير والتنوير بين الأقران.
أما النموذج الآخر فهو:
2- نموذج عظة الرعيّة للأمير، وطلب الأمير من رعيّته التذكير:
وأحببت أن أنقل لكم ذلك النموذج لأننا بحاجة إلى مراجعة أوراقنا، وإلى أن نعرّض قلوبنا للتذكير، وبحاجة إلى أن نَنـزل عن بروجنا إلى الواقع، والواقعُ ليس فيه مثاليات، ولا جمهوريات أفلاطونية.
ينقل ابن كثير في البداية والنهاية أن عمر بن عبيد دخل على الخليفة العباسيّ المنصور فقال له المنصور: "عظني".
فها هو الخليفة يطلب من أحد رعيته تذكيرًا وتنويرًا.
فقرأ عليه سورة الفجر:
{وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 1-14]
وهكذا يقرأ أحد الرعيّة على خليفة المسلمين آياتٍ تذكيريةً تذكّر بسلطان الله تبارك وتعالى، وتذكّر بعظمة الله، وتذكّر بحساب الله للطغاة...
إنه لا يقرأ عليه الآيات التي يختار بعضُهم نصوصَها من أجل أن يُوهم مَنْ أمامَه أنه في سُدّةٍ لا ينالها عقاب ولا حساب.
لا.. فالجميع عبيدُ الله، وكلهم سيقفون في لحظةٍ ما أمام الله في موقف يشيب فيه الولدان.
هكذا يقول المنصور الخليفة: "عظني"، فيختار هذا آياتٍ قرآنيةً تهزّ المنصورَ هزًّا.
ويقول ابن كثير في روايته:
فبكى المنصور بكاءً شديدًا حتى كأنه لم يسمع بهذه الآيات من قبل، ثم قال له: "زدني".
الخليفةُ الذي يسمع تهديد الله بالعقاب يقول لمن يذكّره: "زدني"، فقال:
- إن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فأنت تملك الدولة الإسلامية الكبيرة التي لا تغيب عنها الشمس.
- فاشترِ نفسَك ببعضها، أي: أنفق في سبيل الله مما جعله الله سبحانه وتعالى في يدك.
- وإن هذا الأمر كان لمن قبلك ثم صار إليك، وهو صائر لمن بعدك.
- واذكر ليلةً تُسفِر عن يوم القيامة، أي تذكّر الليلة التي تموت فيها، وتنتقل فيها من مُلكك إلى حفرةٍ صغيرةٍ ليس فيها أنيس، ولا معين، ولا مُنادم، ولا مؤازر..
- فبكى المنصور بكاءً أشدّ من بكائه الأول حتى اختلفت أجفانه، أي: لم يعد من الممكن تمييزها في وجهه.
فقال له سليمان بن مجالد: رفقًا بأمير المؤمنين، فقد أثقلت على أمير المؤمنين في الموعظة.
فيجيب عمر الذي وعظ: وماذا على أمير المؤمنين أن يبكي من خشية الله؟!
لماذا تحرص أن لا يبكي أمير المؤمنين خوفًا وخشيةً؟
وما أحلى البكاء بين يدي الله! وما أحلى أن يتململ العبد في سجوده وهو منطرح في عتبات الله!
لكن حينما ينسى المؤمن التذكير ويعرض عن التنوير.. اسمعوا إلى ما يقوله ربّنا تبارك وتعالى:
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}
فحينما يعرض الإنسان عن التذكير ولا يريده، ويعرض عن التنوير ولا يريده، تتحول الدنيا كلها لتكون في قبضته.
ثم قال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} [الأنعام: 44]
ويقول سبحانه: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165].
فلنعد إلى لحظةٍ صادقة نعرّض فيها قلوبنا لنفحات الله.
ولنراجع أوراقنا، وليكن كلُّ واحدٍ منّا، مع أخطائه وفي أخطائه، طامعًا أن تكون لحظة التذكير والتنوير سبب طهارة وتزكية له.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين