المنتحر كافر أم مسلم؟!!

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.....

وبعد،،،

فلا شك أن الانتحار أمر حرمه الإسلام وجرمه، وأثم فاعله، والحديث على الانتحار والمنتحر ألخصه في هذه النقاط:

1. قبل الحديث عن (المنتحر) وبيان حكمه كقاتل لنفسه، ينبغي علينا أن نسأل ما هي الأسباب التي أودت به إلى هذه الحالة، ففي بعض الأحيان يكون المجتمع حكومة أو أسرة أو بيئة هم جميعا أو بعض منهم سببا في هذا الانتحار، وعليه فإن الحاكم – في بعض الأوقات- عليه جزء من المسؤولية، وكذلك الأسره لديها جزء من المسؤولية، والمجنمع كذلك لديه جزء من المسؤولية، ومن ثم فإن كل حالة لا بد أن تدرس على حدة.

2. حفظ النفس مقصد من مقاصد الشريعة التي جاءن بالحفاظ عليها، وقد شرع الله للحفاظ على النفس أمورا منها: 

أ‌. تحريم قتل النفس قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } [الفرقان: 68].

ب‌. عدّ الإسلام قتل النفس من ورطات الأمور؛ روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ»، والورطات: جمع ورطة وهي الشيء الذي قد لا ينجو منه المرء أو يكون فيه هلاكه.

ت‌. شرع القصاص فقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178].

ث‌. جعل الإسلام مجرد حمل السلاح جريمة؛ روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا»، وروى مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

3. المنتحر على نوعين: 

الأول: مستحل لقتل نفسه، وهذا كافر لأنه استحل ما حرم الله تعالى لأن قتل النفس كبيرة عظمى، حتى وإن كان المزهق للنفسه هو المرء نفسه، والله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29]، وفي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ ". وهنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم قتل النفس (أي نفس) بعد الشرك بالله وعقوق الوالدين.

الثاني: مرتكب ذلك دونما استحلال، وهذا مذنب آثم لكنه ليس بكافر، ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ». وهذا الحديث يرد أقولا باطلة لثللاث فرق:

أ‌. الخوارج الذين يقولون بكفر مرتكب الكبيرة.

ب‌. المعتزلة التي تقول بخلود أهل الكبارئ في النار.

ت‌. المرجئة الذين يقولون بأنه لا يضر مع الإيمان معصية.

4. قاتل نفسه دونما استحلال ليس بكافر، وقد علق النووي على الحديث السابق بقوله: الحديث ففيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو في حكم المشيئ ((شرح النووي على مسلم (2/ 132)). وهذا ما عليه علماء الأمة؛ جاء في الموسوعة الفقهية: لكنه لم يقل بكفر المنتحر أحد من علماء المذاهب الأربعة؛ لأن الكفر هو الإنكار والخروج عن دين الإسلام، وصاحب الكبيرة - غير الشرك - لا يخرج عن الإسلام عند أهل السنة والجماعة، وقد صحت الروايات أن العصاة من أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون. بل قد صرح الفقهاء في أكثر من موضع بأن المنتحر لا يخرج عن الإسلام، ولهذا قالوا بغسله والصلاة عليه، والكافر لا يصلى عليه إجماعا... ((الموسوعة الفقهية الكويتية (6/ 292)).

5. الأحاديث التي جاءت بخلود المنتحر في النار مثل ما جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» ليس هذا لكل منتحر بل هو للمستحل للانتحار، يقول النووي: فقيل فيه أقوال:

أ‌. أحدها أنه محمول على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بالتحريم فهذا كافر وهذه عقوبته.

ب‌. والثاني أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام كما يقال خلد الله ملك السلطان.

ت‌. والثالث أن هذا جزاؤه ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلما... ((شرح النووي على مسلم (2/ 125)).

وأضاف ابن حجر قولا رابعا وهو: توهيم هذه الزيادة، قال الترمذي بعد أن أخرجه: رواه محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فلم يذكر "خالدا مخلدا".... ((فتح الباري لابن حجر (3/ 227)).

6. كفر المنتحر الذي لا يستحل الانتحار يخالف نصوص القرآنية الصريحة، ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

7. المنتحر الذي لم يستحل الانتحار يجب على المسلمين تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، وأما ما رواه عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ»، فترك النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه لا يعني ترك الصلاة بالكلية، وإنما هذا من باب الزجر، وقد بوب النووي في شرحه لمسلم بابا تحت عنوان: (باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر) ومما قاله: وفي هذا الحديث دليل لمن يقول لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي. وقال الحسن والنخعي وقتادة ومالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء يصلى عليه وأجابوا عن هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه بنفسه زجرا للناس عن مثل فعله وصلت عليه الصحابة وهذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أول الأمر على من عليه دين زجرا لهم عن التساهل في الاستدانة.. ((شرح النووي على مسلم (7/ 47)).

والله تعالى أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين