القومية ودورها في تفكيك وَحدة الأمة الإسلامية (6)

نتائج القومية في البلاد الإسلامية

ضعف الأقاليم الإسلامية واحتلالها:

ما دام باب القومية قد فتح على المسلمين فقد كان طبيعيًّا أن تنتهي إلى ظهور القومية العربية والكردية، والبنغالية في باكستان، والطورانية في تركيا لإبعاد الإسلام بصفته صلة وصل وحيدة بينهم؛ فتفرقت بلاد المسلمين ووقعت تحت الاحتلال الأوربي، الذي كان سببًا أساسًا في ظهور هذه الدعوات القومية، وقد شجعت الدول الأوربية الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا ظهورَ القومية العربية في صورها العلمانية لتحقيق مطامعها في احتلال الشرق الإسلامي، وما قامت الثورة العربية على الأتراك إلا بتأييد بريطانيا ودعم حليفتها فرنسا، فقد ثبت أن عددًا من الزعماء كانوا متصلين بالقنصليات الأجنبية لتلقي هذا الدعم(1). 

الفُرقة: 

يقول الدكتور غالب العواجي: (العرب بحد ذاتهم حينما مالوا إلى القومية ووالوا وعادوا من أجل العروبة ازدادوا فرقة وفقرًا وعداوة فيما بينهم، وكادَ بعضهم للبعض الآخر، بل دارت بينهم حروب شرسة حين بغى بعضهم على بعض ببركات حب القومية وافتخار كل بقومه، فقامت الأحزاب والتكتلات الصغيرة والكبيرة على حمية القومية الجاهلية، فازدادت المسافة بينهم وبين الوصول إلى السعادة المنشودة في ظل القومية) (2) فليس الترك وحدهم من تمزقوا بهذا التآمر وإن كانوا أكثر من تضرر، وإنما الكرد أيضا تم تقسيمهم بين عدة دول قومية، وأما العرب فقد تم تقسيمهم إلى اثنتين وعشرين دولة، وأدى هذا التقسيم الجائر إلى خلق توترات دائمة في كل منطقة، وهكذا قامت الدولة القومية وفق نسق سلطة خارجية.

جامعة بروابط وهمية: 

حاولت الأنظمة العربية الناشئة أن توفق بين مصالحها الخاصة ودعواتها إلى القومية فأنشأت جامعة الدول العربية، لكنها كانت شبه وهمية؛ فقد اكتفت ببضع اتفاقيات تجارية وعسكرية وثقافية هشَّة تخللها صراع واسع بين أعضائها.

إخفاقات القومية:

لم تستطع القومية العربية أن ترقَى إلى مستوى التحديات المنوطة بالشعوب العربية؛ فأخفقت في تحقيق الوحدة العربية ولم تفلح كل محاولات الوحدة حتى الجزئية، وأخفقت أيضًا في تحقيق أي مستوى من مستويات التعاون الاقتصادي، فلم تحقق التنمية، ولم تستطع أن تنجز مهمة التحرير والتحدي للهيمنة الغربية وربيبها الكيان الصهيوني.

قوميون وقومية بدوافع أجنبية:

تبين من حوادث العصر أن دخول القومية إلى البلاد الإسلامية عمومًا والعربية خصوصًا إنما كان بدافع الحقد الصليبي واليهودي والرغبة في تمزيق الوحدة الإسلامية والانتماء إلى الإسلام؛ فالانتماء إلى القومية العربية بدل الإسلام سيسهل لهم مهمة احتلال بلدان المسلمين بعد أن يفرقوا بين العرب وسائر إخوانهم المسلمين على مبدأ "فرق تسد"، وقد أثبتت الأيام علاقة القوميين العرب بالقوى العالمية وخضوعهم لها وعملهم على خدمتها حتى ولو كان ذلك يتنافى مع مبادئ القومية التي يتغنون بها، يقول جميل مطر في مقاله "مستقبل العروبة": (لم تعد القومية قادرة بظروفها الراهنة وظروف السياسة والسياسيين في العالم العربي على ملء فراغ الفكر السياسي، وهو الفراغ الذي تدور فيه النخب السياسية والقوى الحاكمة العربية، وتجر شعوب المنطقة بأسرها لتدور معها في هذا الفراغ المدمِّر)(3).

ولا يخفى على المتأمل لنشأة القوميات المتتبع لحركة تغيرها الدورُ الايجابي لها في الغرب في جمع شتات الأمم المتفرقة بعد صراع الكنيسة والشعب وفوضى العصور الوسطى.

وحين حاول الأوربيون لفت أنظار شعوبهم عن الخلافات الداخلية بينهم بعد الثورة الفرنسية خاصة، وتأمين سوق خارج بلدانهم لتصريف إنتاجهم الصناعي بعد تأسيس الدول الحديثة، وتأمين مصادر الطاقة الأولية لتلك العملية الإنتاجية؛ لم يجدوا أمامهم أفضل من الشرق الأوسط، لكن هذا الشرق لم يكن متاحًا لهم بهذه السهولة لوجود دولة قوية تتحكم باقتصاده وتستمد من الإسلام قوة شرعيتها رغم تنوع الأعراق الموجودة في المجتمع الذي تقوده؛ لذلك بدؤوا بدراسةٍ تحليلية لطبيعة تكوين هذه المجتمعات، وعلموا أن أفضل طريقة لغايتهم هي توظيف العرقيات الموجودة توظيفًا سياسيًّا بحيث تطالب كل جماعة ذات عرق واحد بدولة خاصة بها مستقلة عن الخلافة، فبدأ العمل من مركز الخلافة يوم ظهرت فكرة القومية الطورانية في قلب الأناضول عاصمة الخلافة العثمانية التي بدأت بالتمييز بين الأتراك وأبناء الولايات التابعة لها على أساس عرقي.

وتبعا لظهور فكرة القومية التركية ظهرت الدعوات للقومية العربية ثم الكردية وغيرها، فتكونت القوميات ودعت أتباعها للانفصال عن دولة الخلافة بعد سيطرة الاتحاديين، وكانت النتيجة أن تفرق الكُرد بين أربع دول والعرب في ٢٢ دولة والمغرب بين عرب وبربر؛ فأدت هذه الخطوات إلى احتلالِ العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، وتأخيرِ حركة نهوضه وتقدمه، وتصنيفِه عالمًا ثالثًا متخلفًا، وزرعِ دولة جديدة بدواعٍ "قومية دينية" في قلب العالم الإسلامي اسمها دولة "إسرائيل".

إن واجب دعاة المسلمين وقادتهم اليوم أن يفضحوا دعاة القومية، ويبينوا أضرار العصبيات العرقية والإقليمية على الأمة، ويعملوا على إعادة الأمة إلى وحدتها الدينية لتتخلص من الذل والفرقة التي تعيشها أمة الإسلام.

مجلة مقاربات، العدد السادس، المجلس الإسلامي السوري

الحلقة الخامسة هنا 

 

(1) علي محمد جريشه وآخَر، الغزو الفكري للعالم الإسلامي، دار الاعتصام-المدينة المنورة، ط3، عام ١٩٧٩ ص (٧٧-٧٨).

(2) غالب بن علي عواجي، المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها، المكتبة العصرية الذهبية، جدة ، ج ١، ص (٣٦).

(3) جميل مطر، مستقبل العروبة، الهلال، يوليو 1993م، عدد ( 7).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين