مهلاً يا أهل الرواية

قالوا: ما لك معنفا على أهل الرواية الأحداث مقرعا إياهم تقريعا؟

قلت: لأنهم يضيعون شبابهم سدى، ويهدرون أوقاتهم وأوقات غيرهم باطلا، وسيندمون ولات حين مندم.

قالوا: ألم تنادم في شبابك قوما من أهل الرواية مخالطا لهم معاشرا؟

قلت: بلى، صادقتهم وخادنتهم، وهم خيرة أصحابي وصفوة خلاني، لا أبغي لهم بدلا ولا أرضى عنهم حولا، وهم مختلفون عن هؤلاء الأحداث مفارقون لهم مباينون.

قالوا: سمِّ لنا أصحابك من أهل الرواية فنصافيهم وننتفع بهم؟

قلت: أفضلهم: العالم الصالح أحمد بن عبد الملك عاشور، والشيخ مجد بن أحمد مكي، والشيخ محمد بن عبد الله آل الرشيد، والشيخ حامد أكرم البخاري، والشيخ نظام اليعقوبي، والشيخ محمد بن ناصر العجمي، والشيخ عبد الله التوم، والشيخ محمد بن أبي بكر باذيب، والشيخ محمد بن زياد التكلة، والشيخ عمر النشوقاتي، والشيخ محمد وائل الحنبلي، والشيخ خالد السباعي وآخرون.

قالوا: صف لنا مدى نبوغهم وعنايتهم بالحديث والخبر؟

قلت: هم أولو ذهن وضاء وذكاء لماع، ذوو همم عالية وطموحات سامية، مطبوعون على الكرم والأريحية، أحرص الناس على الطلب، مهتمين بالسماع والقراءة، صحبتهم يدورون على المشايخ، يقرأون عليهم ويسمعون ويستجيزون، ويستفيدون من علومهم ويستقون من معينهم الصافي، مقتدين بهم وسائرين على مناهجهم، يظهرون محاسنهم ويسترون معايبهم، جادين كادين، لا يكلون ولا يملون، متوادين متحابين، وفي ظل مودتهم أخذت هذا الشأن، وفي ذرى هذه الأخلاق أحببت السماع والقراءة والإجازة، وإن قلبي ليملؤه البر ويغمره الحنان حين أرتجع عهدي بهم، آنس إليهم إذا شهدتهم فرحا بهم، وأشتاق إليهم إذا غبت عنهم كأني سلبت بعض ما في نفسي، لقد استثرتم بذكرهم حالات من الغرام تتعمق قلبي وتتغلغل في خلايا مخي، وقصارى القول أني أحبهم كما أحب الحب نفسه، وأتعلق بهم برباط من الحنان كما لو كانوا ذوي أرحامي.

قالوا: زعمت أنهم يختلفون عن أهل الرواية في زماننا، فاشرح لنا هذا الاختلاف.

قلت: يباينونهم من أربعة وجوه:

الأول: دخل أصحابي في العلم من أبوابه، درسوا اللغة العربية نحوا وصرفا وأدبا وبلاغة، وأخذوا القرآن الكريم وما يهمهم من تفسيره، والفقه وأصوله والكلام، والسيرة والتاريخ، وغير ذلك من العلوم والفنون والآدب، ثم عنوا بعلم الرواية، وهم في هذه المرحلة لم يغفلوا واجبهم نحو التفقه في دين الله تعالى مواصلين سيرهم الحثيث في سبيله، ودخل أصحابكم في العلم من غير أبوابه، أغفلوا العلوم والفنون والآداب، وجل بضاعتهم إجازات ووريقات مطبوعات ومخطوطات، لا يحسنون لغة، ولا يعرفون نحوا ولا صرفا ولا بلاغة ولا أدبا وشعرا، يدعون شأنا ليسوا من أهله، متشبعين بما لم يعطوا، ولابسين ثوبي زور.

والثاني: تعلم أصحابي العقل والأدب، والعمل والصلاح، والصدق والعفاف، وتأدبوا بآداب شيوخهم، وأخذوا من سيرة الصالحين، وشُغل أصحابكم عن العقل والأدب، متكاسلين في الصلاة، ولاهين عن أعمال الصلاح، بعيدين عن الصدق والعفاف، مشاقين لطرق الشيوخ، ومعادين لسير الصالحين.

والثالث: وجدت أصحابي إخوانا متناصحين متعاونين على الخير، محبين لغيرهم ما يحبون لأنفسهم، يدلون إخوانهم على الشيوخ، ويدبرون لهم لقاءهم والانتفاع بهم، ويبذلون لهم تراجم الشيوخ وكتب الأثبات والمشيخات والفهارس والأجزاء العوالي، وألفيت أصحابكم غير متناصحين ولا متعاونين، يضنون بالشيوخ، ويكتمون أسماءهم، ويبخلون بالأحاديث العوالي، وإذا مات شيخ كبير السن تفاخروا بالرواية عنه بطرا ورياء.

والرابع: إن أصحابي قوم متواضعون كرام في رفق ولين، وحلم وأناة، وإن أصحاب الرواية في زمانكم قوم مستكبرون أجلاف يحتقرون غيرهم ويترفعون عليهم، ويتبادلون السباب والشتائم والبذاءة وسوء الأدب، ينفر الصالحون من مجالسهم، ويكرهون مرافقتهم.

قالوا: ما نراك عدوت الحق والصدق، فما تنصحنا؟

قلت: أن تعكفوا على دراسة اللغة العربية وآدابها، واكتساب العلوم والفنون، والاختصاص في بعضها، والتعبد والتأله والتخلق بسير الصالحين في رفق وتواضع وتناصح وتعاون، داعين ربكم أن أن يبارك في علمكم وعملكم، وأن يطهر بكم العالم على أساس السنة النبوية والهدي النوراني الذين تطلبونهما ليلا ونهارا. اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا ومغفرة منك ورضوانا، آمين يا رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين