استشعار المسؤولية في القرآن الكريم

"من تحقيقِ المناط إلى ارتفاعِه"

-1-

خلق الله تعالى الإنسان وكرَّمه، فجعله مسؤولًا أمام الله تعالى وأمام نفسه وغيره، وهو تكريم يفضي إلى استقرار الحياة والعيش فيها وَفق المنهج الذي أراده ربُنا سبحانه وتعالى، وغرض هذا البحث بيانُ ما تضمنه القرآن الكريم من مبادئ ومقاصد لا ينفك عنها الإنسان من حيث الفكر والروح والقِيَم والتعايش والعمل وعلاقته بالكون، ومنها مبدأ "استشعار المسؤولية من تحقيق المناط إلى ارتفاعه"، وأساس هذه المسؤولية التكريم الإلهي للإنسان إذ جعله مسؤولًا وأناط تلك المسؤولية بموطن التكريم الإلهي وهو "العقل"، فلا مسؤولية على من لا عقل له، وحيثما ارتفعت المسؤولية الأخلاقية والجنائية فليس للتكريم معنى يُنَاطُ به، وللمسؤولية في القرآن أبعاد شخصية وغيرية يكتمل بها تأسيس هذه القضية التشريعية، ثم ما على الفقهاء سوى استنباطِ جزئياتٍ متممة لها على هدي السنة النبوية ومقاصد الشريعة.

مصطلحات الدراسة:

الاستشعار: المقصود بالاستشعار أنّ القرآن الكريم أودعَ في الإنسان حتميَّة الإحساس بالمسؤولية والقيام بها بصفتها أساسًا لصلاح الدنيا.

المسؤولية: مدلولها معلوم، وكلُّ واحد يقوم بها، وهي تحمُّل الشخص ما التزم به طوعًا أو أُلزم به كرهًا.

تحقيق المناط وارتفاعه: أسَّس القرآن لقضية المسؤولية بربطها بالأخلاق والعقل والحرية والتكريم وبَعثة الرسل، فمن قامت به هذه المعاني ثبتت مسؤوليته، وهو المراد بتحقيق مناط المسؤولية، لكن يمكن أنْ ترتفع هذه المسؤولية أخلاقيًّا وجنائيًّا بفقد العقل، وهذا ما نعنيه بارتفاع المناط.

إذًا في كلِّ مسؤوليةٍ تكليفٌ ومشقة، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفقة والنصح والإرشاد وقول الحق، فما لا مشقة فيه لا يندرج في مفهوم المسؤولية، وهي إمَّا التزامٌ أو إلزامٌ، ومنها أن يلتزم الإنسان بشيء متطوِّعًا به، وليس المقصود بالتطوع أنَّه لا يأخذ أجرًا، ومن هذا القبيل كلُّ من يرشح نفسه للقيام بالمسؤوليات العامة كرئاسة دولة أو حزب أو وظيفة قضائية أو تدريسية...، ولعل في قول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام دليلًا على هذا: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ومثله قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 38-40] عرَض سليمانُ عليه السلام أمرًا فاستجاب له اثنان: عفريت من الجنِّ وشخص عنده علم من الكتاب، وهي استجابة تطوعية، والأصل في تحُّمل المسؤولية أنها تطوَّعية أي أن الإنسان في خِيَرةٍ من أمره بأن يفعل أو لا يفعل، واتصافه بهذه الإرادة شرط لتحمُّل المسؤولية؛ وقد يكون تحُّمل المسؤولية إلزامًا عن طريق قوَّة ملزِمة لتحمُّل المسؤولية كالنفقة على الزوجة والصغار وردِّ الدَّين والعارية.

المبحث الأول

شروط تحمُّل المسؤولية في القرآن الكريم

الناظر في القرآن الكريم وفي الطبيعة التكوينية للإنسان يجد أن الشرط الوحيد لذلك هو الإرادة والقدرة، فالإرادة معنًى قائم بالنفس يوجهه نحو القيام بالفعل، والقدرة تنفِّذ ما كُلِّفَ به وتتنوَّع بحسبه؛ فقد تكون مالية أو عقلية أو بدنية، ولا أحدَ يَصْدُق عليه لفظ مسؤول بهذا المعنى إلا الإنس والجن، فالملائكة ليست مسؤولة لأنها مسيرة في أداء ما كُلِّفت به، فهي مجبولة على الطاعة، أما الحيوان ونحوه فمن باب أولى أنَّه لا يكون مسؤولًا لأنه لا عقل له ولا اختيار، فإن فُقد العقل انتفت الإرادة والقدرة وارتفعت عن الإنسان المسؤولية بجميع درجاتها ابتداء بالمسؤولية العليا وهي الإيمان وانتهاء بالمسؤولية الدُّنيا وهي مسؤوليته عمَّن حوله، وهو معنى قول الفقهاء (إذا أَخَذَ الله ما قَدْ وهَب أَسْقَطَ ما قَدْ وَجَب).

إن اشتراط الإرادة والعقل للقيام بالمسؤولية مبثوث في ثنايا القرآن الكريم تصريحًا وتلميحًا، وأساس ذلك حمل الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، وهذا التَّحمل اختياري، فالعرض: تقديم شيء لشخصٍ ليختاره أو يرفضه، ومنه عرضُ الناقة على الحوض -أي عرضُها عليه لتشرب منه- وعرضُ المجندين على القائد لقبول من يصلح منهم، وفي حديث ابن عمر: ((عُرضت على رسول الله وأنا ابن أربع عشرة فردَّني، وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني))(1).

وحيثما ثبتت المسؤولية دلَّت على وجود الإرادة والقدرة، وبارتفاعهما ترتفع، ففي الإكراه تنتفي المسؤولية، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وفي الخطأ أو النسيان تنتفي المسؤولية الأخروية، قال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] أما المسؤولية الدنيوية فهي باقية لأنها من متعلَّقات الحكم الوضعي وليس من شرطه التكليف، وأما حديث المتكلمين عن جواز تكليف الله تعالى عبادَه بما لا يُطاق فهو في الجواز العقلي لا الشرعي؛ فليست له تطبيقات واقعية، وكلُّ ما أمر الله به أو نهى عنه مقدورٌ للإنسان، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] وقال سبحانه {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6].

ومن أبرز مسائل المسؤولية في القرآن الكريم أنَّ طابعها شخصي، فمن ارتكب جرما يتحمله هو ولا يتحمله غيره عنه في الدارين أيًّا كانت درجة القرابة، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 و89] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37] وهو إنما يفر منهم خوفًا على نفسه من العذاب المنتظر ومن هول الأحداث يومئذٍ، وهذا يدلُّ أنه لا أحد يحمل عن أحد مسؤولياته وتبعاتها، وهذه المسؤولية لا نظير لها ولا بديل، ومن هنا يتبيَّن خطأ عقيدة النصارى في "قضية الصلب" التي تأتي تكفيرًا عن ذنبٍ لم يفعله عيسى عليه السلام.

نعم قد تكون المسؤولية غيْرية من وجهٍ شخصيةٍ من وجه، فالإنسان يُسأل عن أعمال غيره عندما يفتن غيرَه أو يُضلُّه مثلًا، قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، ومن ذلك أنْ يسُنَّ سنة سيئة، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ))(2).

من مجلة ( مقاربات) التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد السادس

(1) محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية – تونس، 1984 هـ، 22/ 125، والحديث رواه الترمذي في سننه وقال: "هذا حديث حسن صحيح". الجامع، كتاب أبواب النكاح، باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة، رقم: 1361، ورواه ابن حبِّان في صحيحه، 11/ 29، ترتيب: علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، تح: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1408 هـ - 1988 م.

(2) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة، رقم: 1017، تح: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين