نحو قيادة رشيدة للعمل الثوري

نحن في ثورة هدفها الحرية والحقوق والكرامة الإنسانية والعدالة والمساواة، ولا يمكن لها أن تنتصر إلا بوجود قيادة رشيدة تقود المؤسسات الثورية من خلال نظام متكامل يلتزم به كل من انتسب إلى هذه الثورة، ولتحقيق هذا الهدف وبلوغ هذه الغاية لا بد لمن تصدر للقيادة أن يكون مقداما عند الأزمات عزيزا عند الهِبَات ولو كان ذا حاجة؛ فالشعب ينقاد للرجل الشجاع عزيز النفس، وإن القائد المؤثر هو الذي يترك بصمة وراءه ولا يعرف التصنع والتكلف في المظهر الخارجي.

إنه لا مناصَ اليوم من التعاون بين قيادة الثورة وقاعدتها، وعمل الفريق الواحد المتعاون والمنسجم دون تمييز بين الطرفين، وعلى القيادة الثورية أن تلزم نفسها بما تلزم به غيرها معنويًّا وماديًّا بل ينبغي أن تسبق غيرها لتكون قدوة، فهل استطاع الذين وُضعوا في مكان القيادة لمؤسسات الثورة المتنوعة أن يقدموا بديلا عن مؤسسات النظام المتخلفة الفاسدة أم أنهم صنعوا مؤسسات طبق الأصل عنها؟

كيف نستطيع أن نقنع العالم بثورتنا، ومؤسساتنا لا تختلف عن مؤسسات النظام لا شكلا ولا مضمونا، بل تستمر على الثقافة ذاتها دون تغيير؟

لقد حفل تاريخنا الإسلامي بالقادة العظماء الذين علموا العالم كيف تكون القيادة بدءًا من القدوة الأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ثم من جاء بعدهم من قادة صالحين. 

تساوي القادة والقاعدة:

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دائما على رأس جنوده يعيش بينهم بجسمه وروحه كما كان يسكن في قلوبهم ومشاعرهم، وقد كان يشاركهم كلَّ أعبائهم في جمع الحطب وحمل التراب والبناء، ولم تكن مشاركته شكليةً لقص الشريط أو الإيذان ببدء المراسم وسط تصفيق الجماهير المحتشدة، لقد روت لنا كتب السيرة مشاركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بناء المسجد النبوي، فكان يحمل اللبن والتراب كما يحمل أصحابه ويقول: (لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار)، وجعل أصحابه الكرام يرتجزون ويقولون: (لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل).

وأما عند المغنم فلم يكن رسولنا صلى الله عليه وسلم يؤثر نفسه بشيء من المغانم والغنائم دون أصحابه بل كان يساوي نفسه بهم، ثم يتصدق بنصيبه على المحتاجين والفقراء، ومرة أهدته امرأة بردة فأخذها محتاجا إليها ولبسها، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه! اكسنيها، فناوله إياها. ورغم كثرة ما يأتيه من الغنائم كان يعيش فقيرًا ويتصدق بما أفاء الله عليه على أهل الفاقة والحاجة.

هكذا كانت قيادة رسول الله، وهكذا يجب أن يكون من يتصدى للقيادة فردًا وجماعةً لأنه لا يمكن لأي قيادة أن تقود إلا إذا أصبحت قدوة للجماهير في تجسيد آمالهم؛ بأن تلزم نفسها قبل غيرها بالسلوك القويم والالتزام بالأمانة والعفة والتضحية، وأن يكون قولها وسلوكها مطابقًا لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، وكان عمر رضي الله عنه يقول: (أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم).

الاستشارة:

وإن من أهم صفات القيادة الراشدة استشارة الجماعة؛ فالعقل البشري لا يحيط بكل الأمور، ورأي الجماعة خير من رأي الفرد، وهي مبدأ من مبادئ الإسلام، والأخذ بها فريضة، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستشير أصحابه في كل أمر لم يرد فيه تنزيل صريح، فكان يستشير السعدين في أمور المسلمين، ويستشير أبا بكر وعمر حتى روي أنه قال لهما يوما: (لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما).

وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم سار خلفاؤه، فاستشار أبو بكر في حروب الردة، وكان عمر يستشير أصحابه في كل أمر من أمور المسلمين، ويحثهم على أن يشيروا عليه وأن يقولوا ما يرونه حقًّا وصوابًا لا ما يظنونه يوافق هواه، ومن أشهر ما ورد في سيرته -رضي الله عنه- استشارتُه أصحابَه في شأن طاعون الشام حتى راجع أصحابه في القول وراجعوه مرات ومرات، بل قال له أبو عبيدة: (أفرارًا من قدر الله؟) فلم يستخدم أمير المؤمنين سلطته لينتقم لنفسه بل اكتفى بقوله: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!).

إن هذه الصفات أخلاقيات قادة حقيقيين لا مسؤولين متسلطين، صفات أصحاب رسالة لا أصحاب مصالح وزعامات، هكذا تكون القدوة في قيادة المسيرة، ومن هنا كانت الشورى والمشاركة في الإدارة واجبًا وليست ترفًا أو ملءَ فراغ.

إن الاستشارة تعني نهوض المرؤوسين بمسؤولياتهم مع المسؤول يدًا بيد ورأيًا برأي؛ ليشعر كل فرد بأنه جزء أساسي في مؤسسته، وأن لرأيه قيمة وله الحق في النقد، وأن سلامته محفوظة من البطش والاستبداد أو الطرد من العمل، ففي هذا الجو من النزاهة والمسؤولية ينشأ الموظفون أصحاب الشجاعة في الرأي والأمانة في القول والعمل، وهنا يتكرر السؤال: أين مؤسساتنا من هذه الثقافة الحضارية والإنسانية؟

إن العلاقات السليمة لا تنشأ إلا في جو ثقافي حضاري يؤمن بقيمة الإنسان من حيث هو إنسان، له كرامته وله حقوقه على الآخرين، ففي الأثر: المسلمون إخوة متحابون متعاونون متساوون لا فضل بينهم إلا بالتقوى، ولا يمكن تنمية العلاقات الإنسانية وتقويتها إلا بالمشاركة والشورى فماذا تعني الشورى والمشاركة؟ وما صلتها بالعلاقات العامة؟

إن في الشورى قوة للمسلمين؛ فهي تدعم جماعية الفكر والتفاهم المشترك، وتشعر كل فرد بذاتيته وكينونته بصفته إنسانًا مكرمًا مقدرًا، فمن أشق الأشياء على النفس البشرية أن تهمل فلا يؤبه لها.

الالتزام بما ندعو إليه:

إنَّ سر نجاح أي ثورة أو دعوة أو مؤسسة يكمن في مدى قدرة أصحابها على الالتزام بما يدعون إليه سلوكًا وخلقًا قبل أن يطالبوا الآخرين بتطبيقه، ومن هنا أقول: على الذين رشحوا أنفسهم لقيادة الثورة أو فتحوا مؤسسات باسم الثورة أن يدركوا الواقع ويتطلعوا إلى حجم المآسي المادية والمعنوية لجماهير الثورة، لا أن يبقوا في برجهم العاجي.

إن الجماهير السورية المشردة دفعت أغلى الأثمان وجادت بالنفس والمال، فهل يجوز شرعا وإنسانية ممن يدعي الثورية أن يترفَّه على حسابهم وهم يحتاجون إلى لقمة عيش أو ظل خيمة أو شجرة؟

بدلا من أن نقول للأتراك: نحن المهاجرون وأنتم الأنصار؛ علينا أن نقول للمشردين الفقراء: أنتم المهاجرون ونحن الأنصار.

إن ما نحن فيه اليوم لا يختلف عن ثقافة النظام في شيء؛ المحسوبية وشخصنة المؤسسات وثقافة التوريث والتحكم في الناس ولي أعناقهم من خلال استغلال حاجتهم، وتغييب مبادئ العدالة والشورى والمشاركة، ثم بعد هذا ندعي الثورية!

الإدارة والمسؤولية:

العبقرية في الإسلام تتجلى في إرشاداته الإدارية السامية، وإن المقام ليستدعي إلى الذاكرة الداء العالمي الذي تشكو منه معظم إدارات العالم المتمدن في وقتنا الحاضر، أعني به (البيروقراطية) أو (سلطة المكاتب) التي تحولت من وسيلة لضبط الأعمال وتنظيمها إلى غاية في كثير من المجتمعات ولدى كثير من الأفراد؛ وبدلا من أن تكون البيروقراطية أداة لتيسير أمور الناس أصبحت أداة لقهر الإنسان وإذلاله، وتحولت من خدمة الآخرين إلى السيادة عليهم تحت شعارات مختلفة، فأصبح الناس يطيعون أصحاب هذه المكاتب خوفًا وطمعًا.

لقد أوضحت التجارب البشرية أنْ لا شيء أفسد للنفس البشرية من السلطة المطلقة التي لا رقابة فيها، ولهذا طالب أبو بكر وعمر الناس بالرقابة عليهما ونصحِهما إن أخطآ، وإنَّ ما سبق من أمثلة ليبين لنا أنَّ المسؤول في أي مؤسسة ليس جبارًا ولا متسلطًا يملك حقا لا يملكه فرد آخر في المؤسسة بل هو فرد ملتزم بما يُلزم به أفراد المؤسسة.

لقد أفضى التطبيق الإداري في الإسلام إلى تكوين مجتمع الكفاية والعدل، وإن تكوين هذا المجتمع لَهو أسمى غاية لأي نظرية إدارية في هذا الوجود، ذلك المجتمع الذي يتميز بعلائق المحبة والثقة والإيثار بين أفراده، بخلاف المجتمع الذي تحكمه (البيروقراطية) حيث يفقد الأفراد حريتهم في ظلاله، ويصبحون دمى مسلوبة الإرادة تحت سلطةٍ لا حدود لها، لا تعني شيئا أكثر من كونهم أجراء صغار في مؤسسة المدير أو المسؤول.

إن الثورة السورية تحتاج إلى قيادة نزيهة راشدة، تعمل بنظام إداري سليم، مبدؤه الاستشارة والتعاون ونقد الأخطاء وتساوي الرؤساء والمرؤوسين، واتباع حقيقي لما تعلمناه من نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.

العدد السادس من مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الاسلامي السوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين