من أساليب التربية النبوية السؤال

الدكتور عثمان قدري مكانسي



      يدخل أحدنا على أهله أو أصحابه ، وكان قد رأى لتوه حادثاً في الشارع ، فيسألهم : أتدرون ماذا رأيت قبل قليل ؟
     فهل ـ هو ـ في سؤاله هذا يريد إجابتهم ؟ إنه لا يريد ذلك ، فهو متأكد أنهم لم يروا شيئاً .
     فلماذا يسألهم إذاً إذن ؟
     إنه يريد أن يحوز اهتمامهم ، ويستجمع انتباههم ، فلا يفوتهم شيء من الحديث يبدؤه .
     هذه الطريقة في تجميع الذهن وتهيئة النفس للاستقبال نجدها كثيراً في أحاديث رسول الله          صلى الله عليه وسلم ـ :
- فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حمار فقال لي : يا معاذ ، أتدري ما حق الله على عباده ؟ وما حق العباد على  الله ؟
     قلت : الله ورسوله أعلم .
     قال : حق الله على العباد : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله : أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً .
     قلت : يا رسول الله ، أفلا أبشر الناس ؟
     قال : لا تبشرهم فيتوكلوا(1) .
     - وعن أبي بكرةَ ـ رضي الله عنه ـ قال :
     قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثاً ( أي طرح هذا السؤال ثلاث مرات ليعلنوا عن رغبتهم في ذلك ، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم فليغتنموا الفرصة وليتعلموا ) .
     قالوا : بلى يا رسول الله .
     قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، ( وجلس وكان متكئاً ) ألا وقول الزور ( وما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت ) (2) .
     - وعن زيد بن خالد ـ رضي الله عنه ـ قال : صلى بنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة الصبح في الحديبية على أثر سماء(3) كانت من الليل .
     فلما انصرفَ ( انتهى من صلاته ) أقبل على الناس ( طارحاً سؤالاً لينتبهوا )
     قال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟
     قالوا : الله ورسوله أعلم .
     قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر : (4)
     فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي  كافر بالكواكب ، وأما من قال : مُطرنا بنوء(5) كذا وكذا  فذلك كافر بي ، مؤمن بالكواكب(6) .
     لقد أراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعمق إيمان المسلمين بربهم ، وأن يوجهه الوجهة الصحيحة ، فيسند الأمر كله لله ، وكان المعنى كله مجموعاً في الجملتين الأخيرتين ، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألهم ليستجمعوا  شتات أفكارهم ، ولينصتوا إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لا تضيع كلمة واحدة مما يقول ، فلما أجابوه مسلمين إلى الله ورسوله أمور الغيب ، ذكر ما ذكر ، ليعلموا أنه ما مِنْ حركة ولا سكنة إلا بأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
    -  وأراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يصف المؤمن فيأتم به الناس ، وأن يصف الشرير فيبتعدوا عن محاكاته ، فجاءهم بصيغة السؤال :
     فعن أسماء بنت يزيد قالت :
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا أخبركم بخياركم ؟
     قالوا : بلى .
     قال : الذين إذا رُؤوا ذكر الله .
     أفلا أخبركم بشراركم ؟
     قالوا : بلى .
     قال : المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العنت (7) .
     إن رؤية المؤمن الخيّر والنور يطفح من وجهه ، والإيمان يزيده بهاء ، تذكر بالله سبحانه ، وإن رؤية الفاسد الشرير ، النمام المفسد المؤذي ، تجعل الناس يستعيذون من شره ، فوجهه أسود ، وعيناه عينا شيطان .
    - وقد يكون السؤال حقيقياً يقصد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشاركة أصحابه له في الفكرة ، أو شحذ أفكارهم لتكون أكثر استعداداً لتلقي المعاني التي يوردها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
     فعن ابن عمر ـ رضي الله عليهما ـ قال :
     قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أخبروني بشجرة مِثْلِ المسلم ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، لا تحتُّ ورقها ؟
     فوقع في نفسي النخلة ، فكرهت أن أتكلم ، وثمَّ ( هنالك ) أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فلم يتكلما ، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هي النخلة .
     فلما خرجت مع أبي قلت : يا أبتِ ، وقع في نفسي النخلة .
     قال : ما منعك أن تقولها ؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي ّ من كذا وكذا .
     قال ( عبد الله ) : ما منعني إلا أنّي لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما ، فكرهت(8) .
    -  ومن ذلك ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من أصبح اليوم منكم صائماً ؟
     قال أبو بكر : أنا .
     قال : من عاد منكم اليوم مريضاً ؟
     قال أبو بكر : أنا .
     قال : من أطعم اليوم مسكيناً ؟
     قال أبو بكر : أنا .
     قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما اجتمعت هذه الخصالُ في رجل في يوم إلا دخل الجنة(9) .
     فقد لاحظنا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطرح صفات المؤمن التي تؤهله دخول الجنة بطريقة السؤال ، ليقارن السامع نفسه بما فعل الآخرون ، فيشجع على منافستهم .
إن السؤال أسلوب من أساليب التربية التي تشد انتباه السامع ويدعوه إلى التفكر والتدبّر واستكناه الفكرة بقدح زناد التفكير والمشاركة .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين