المُسلّمات الشرعيّة في خطر

في مجموعة على إحدى وسائل التّواصل الاجتماعي للحوارات الشرعيّة تضمّ ‏عشرات العلماء والدّعاة طرح أحدهم سؤالًا حول حكم تغطية شعر المرأة، وهل ‏الحجاب فرض؟!‏

سارع العديدُ من العلماء الكرام إلى استغراب طرح السّؤال، واستهجان الحديث ‏في هذه القضيّة كونها من "المُسلّمات" المفروغ منها فلا حاجة للحديث فيها ‏أصلًا.‏

• المسلّمات الشرعيّة في مهبّ رياح الشّكّ والتّشكيك

في عصر الانفتاح المطلق على كلّ شيءٍ فكريًّا وأخلاقيًّا، وفي زمن تفجّر ‏المعلومات والثورة التقنيّة، وتحت وطأة هيمنة وسائل التّواصل الاجتماعيّ التي ‏غدت أداةً مفتوحةً للجميع لإعادة صياغة وعي الجمهور.‏

إضافة إلى ما أثمرته مرحلة ما بعد ثورات الرّبيع العربي والثّورات المضادّة من ‏اهتزازاتٍ فكريّة عميقة، وتفجُّرٍ للأسئلة بطريقة تنسجم مع هدم كلّ شيء ‏والانعتاق من الخضوع لأيّة سلطة على الإطلاق.‏

كلّ ذلك جعل الكثيرَ من المسلّمات الشرعيّة؛ الإيمانيّة منها والفقهيّة على حدّ ‏سواء محلًا للشّك أو عرضةً للتشكيك

فلم تعدُ مسألةٌ مثل وجود الله تعالى وما يترتّب عليها من قضايا الاعتقاد من ‏المسلّمات عند شريحة من الشّباب الجديد

ولم تعد قضيّة صلاحية الإسلام لكل زمان وزمان من المسلّمات، وكذلك غدت ‏قضيّة مثل وجوب الحجاب مثار جدال ونقاش جديدٍ، ومسائل مثل هل ‏الإسلام في ذاته شريعة الحق أم لا؟! ‏

وغير ذلك الكثير من القضايا التي كانت عند المشتغلين في حقل الدّعوة والعلم ‏الشرعيّ من المسلّمات التي لا حاجة للحديث فيها.‏

• معضلةٌ في الخطاب الدّعويّ

عدم الالتفات إلى هذا التّطوّر الكبير جعل الخطاب الدّعويّ والشّرعيّ العام ‏القائم على الاعتقاد ببقاء هذه المسلّمات في الوعي الجمعيّ ينتقل تلقائيًّا إلى ‏مرحلة ما بعدَ المسلّمات.‏

وهذا ملحوظ في البرامج الدينيّة في القنوات الفضائيّة وفي الدّروس المسجديّة، ‏وكذلك يحضرُ بقوّة في المناهج التربويّة للجماعات الإسلاميّة المختلفة؛ حيث يتمّ ‏التركيز على قضايا ما بعدَ المُسلّمات من القضايا الشرعيّة والتربويّة. ‏

هنا يغدو الخطاب الدّعوي والشّرعيّ حاله كحال من يبذل جهده لبناء الطابق ‏الثّاني والثّالث، دون أن ينتبه إلى أنّ الطّابق الأرضيّ غير موجود أصلًا؛ فيكون ‏كمن يبني في الهواء لا يستقرّ له بناء ولا يجني غير المزيد من الرّكام.‏

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ كيف يمكن أن يكون للحديث عن "علوّ الهمّة" أيّة ‏جدوى إن كان المتلقّي عنده شكّ في أنَّ الإسلام هو الدّين الحقّ، أو عنده شكّ ‏أصلًا في الجدوى من الوجود أو الغاية من الرسالات؟!!‏

وكيف يمكن أن يكون للكلام عن فضائل الصّلاة وأثرها في الحياة أيّة قيمة ‏والمتلقّي يشكك في أنَّ الصّلاة أصلا أمر يريده الله تعالى، ويتفجّر في أعماقه ‏سؤال؛ ما حاجة الله تعالى لصلاتنا حتّى يفرضها علينا؟!‏

• تألِيهُ العقل

من أهمّ الأسباب العميقة التي أدّت إلى حالة التّشكيك بالمسلّمات ما نراه من ‏استفحال ظاهرة تأليه العقل.‏

بحيث يغدو العقل من القداسة بمكان فيكون هو الحاكم على النّصوص الشرعيّة ‏والمهيمن عليها

ويغدو الباب مُشرَّعًا تحت عنوان إعمال العقل وعدم قبول الاتّباع بغير اقتناع ‏عقليّ لهدم المسلّمات الشرعيّة التي تستند أصلًا إلى نصوص واضحة وقطعيّة ‏الثّبوت والدلالة؛ فلا حرمة لشيءٍ أمام العقل المقدّس.‏

يسير جنبًا مع هذا هجومٌ شرسٌ على كلّ من يحاول وضع العقل في نصابه ‏ومعرفة حدوده وطاقته، فيغدو معطّلًا للتّفكير ومنغلقًا وقامعًّا مستبدًّا!!‏

وكأننا محكومون بالقسمة الثّنائيّة بين تألِيه العقل أو تعطيله، والمطلوب هو إعمال ‏العقل إلى غايته القصوى دون تعطيلٍ ولا تأليه!!‏

ورحم الله الإمام السّفاريني الذي يقول في كتابه "لوامع الأنوار البهية":‏

‏"فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعُقُولَ، وَأَعْطَاهَا قُوَّةَ الْفِكْرِ، وَجَعَلَ لَهَا حَدًّا تَقِفُ عِنْدَهُ ‏مِنْ حَيْثُ مَا هِيَ مُفَكِّرَةٌ، لَا مِنْ حَيْثُ مَا هِيَ قَابِلَةٌ لِلْوَهْبِ الْإِلَهِيِّ

فَإِذَا اسْتَعْمَلَتِ الْعُقُولُ أَفْكَارَهَا فِيمَا هُوَ فِي طَوْرِهَا وَحَدِّهَا وَوَفَّتِ النَّظَرَ حَقَّهُ، ‏أَصَابَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى

وَإِذَا سُلِّطَتِ الْأَفْكَارُ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ طَوْرِهَا وَوَرَاءَ حَدِّهَا الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ ‏لَهَا، رَكِبَتْ مَتْنَ عَمْيَاءَ، وَخَبَطَتْ خَبْطَ عَشْوَاءَ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا قَدَمٌ، وَلَمْ تَرْتَكِنْ ‏عَلَى أَمْرٍ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ

ثمّ يقول: فَإِنَّ تَسْلِيطَ الْفِكْرِ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَدِّهِ تَعَبٌ بِلَا فَائِدَةٍ، ‏وَنَصَبٌ مِنْ غَيْرِ عَائِدَةٍ، وَطَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَكَدٌّ مِنْ غَيْرِ مَنْجَعٍ، وَقَدْ أَمَرَنَا ‏بِالْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهِ"‏

• لَبرَلَةُ الإسلام

من الأسباب العميقة التي تقود إلى هدم المسلّمات وإذكاء التشكيك فيها؛ ‏التّعامل مع الإسلام وأحكامه وقضاياه بنزعةٍ ليبراليّة.‏

بحيث يتمَّ إخضاع المسلّمات الشرعيّة للأفكار الليبراليّة التي تهيمن اليوم على ‏الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ للمنظومة العالميّة ممّا يجعل هذه النّزعة ‏تتسرّب إلى آليّة ومنهجيّة تفكير الكثير من الشّباب في التعامل مع المسلّمات ‏الشرعيّة.‏

فعلى سبيل المثال غدت المسلّمة القائلة بأنَّ الإسلام منهج يحكم الحياة بكلّ ‏تفاصيلها في مهبّ الرّيح عند كثير من الشباب "الإسلامي" الذين غدوا يرون ‏بأنَّ الشّريعة لا علاقة لها بالسّياسة والعمل السياسيّ، ويرون في الميكافيللية نهجًا ‏سياسيًا لا يتعارض مع الإسلام الذي ينتمون إليه.‏

ومنهم من غدا يعتقد بأنّ الإسلام لا نظامَ للحكم فيه وليس فيه نظام دولة، ‏وليس فيه نظام اقتصاديّ

ومنهم من يعلي من شأن الحريّة إلى درجةٍ يجعلها حاكمةً على النّصوص ‏والأحكام فيتحلل من بعض الأحكام الشّرعيّة كونها تتعارض وحريّة الفرد بناء ‏على وجهة نظره.‏

ممّا ينتج دعواتٍ مبطّنةٍ إلى فصل الدّين عن السّياسة والاقتصاد بل عن عموم ‏أخلاقيّات الحياة.‏

• قضيّة عادلةٌ ومحامٍ فاشل

ما أصدق عبارة الشّيخ محمّد الغزالي: " الإسلام قضية عادلة وقعت بين أيدي ‏محامين فاشلين!"‏

فلا يكاد يمرّ يومٌ إلّا وتتعرّض فيه مسلّمات الشريعة للهجوم عليها من ‏‏"ميليشيات" فكريّة يجمعها العداء للإسلام؛ فترمى الشّبهات، وتنتشر عبر ‏الشاشات وفي وسائل التّواصل الاجتماعيّ، فلم يبقَ ثابتٌ من ثوابت الإسلام ‏ولا مسلّمةٌ من مسلّمات الشّريعة إلّا أثيرت حولها الزّوابع

ولا تجد هذه الهجمة العدد الكافي ممن يتصدّى لها ويدحضها وينقض عراها؛ ‏فالأصوات والأقلامُ الخيّرة العاقلة الرّاشدة في هذا المجال موجودةٌ لكنّها قليلةٌ جدًّا

‏ فتنتشر الشّبهات وتغدو المسلّمات الشرعيّة عرضة للتشكيك أمام المشهد ‏البائس من تركيز الهجوم وتكاثر السّهام وندرة الدّروع الواقية.‏

• واجب الوقت في الخطاب الدّعويّ والشّرعيّ

إنَّ إعادة الحديث في المسلّمات الشرعيّة والبديهيّات الإيمانيّة هو من الضّرورة ‏بمكان في هذا الوقت.‏

إنَّ إعادة طرح أصول الإيمان وأصول الشّريعة والقضايا الكبرى والمسائل الأساسيّة ‏التي يعدّها الدّعاة من أوضح الواضحات هو مهمّة شاقّة لكنّها تغدو واجب ‏الوقت إذ تتزلزل الأركان وتميد الثّوابت وتميع الأسس.‏

على أنَّ الطرح ينبغي أن يكون طرحًا نوعيًّا من حيث الشّكل والمضمون، بحيث ‏يجمع بين التبسيط والتعميق، والبعد عن التّسطيح بدعوى التّبسيط.‏

وعلى الخطاب أن يجمع أيضًا بين المسار البنائيّ الذي يعيد طرح المسلّمات ‏الشرعيّة بغية تثبيتها وترسيخها، وبين المسار العلاجيّ الذي يضع الشبهات المثارة ‏على طاولة النّقض والدّحض بعمق ووضوح بلا تكلّف ولا تعقيد.‏

إنّها معركةٌ شرسةٌ تستهدف قواعد البنيان وأعمدة القصر، والخسارة كارثيّة ‏المآلات على المستويات كلّها؛ فهل من مدّكر؟!‏

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين