حتى نُعَزّزَ وحدتَنا

كثيراً ما نتكلّم عن توحيد الصف المسلم، وعن جمع القلوب ورصّ الصفوف، لكن واقع المسلمين يتّسِمُ بالتشرذم والتفرق، وكل فرد يلقي باللائمة على غيره من الأفراد، وكل حزب أو تكتل أو جماعة... تلقي باللائمة على غيرها. بل صار كثير من المسلمين كملوك الطوائف يتلقى بالقبول قول الأعداء في إخوانه، ويستقوي بالأعداء على إخوانه، وقد يشمت بما يفعله الأعداء بإخوانه!!.

الوحدة سبيل القوة. وتعزيز هذه الوحدة أمر يستحق أن تركّز حوله الجهود، وتسخّر له الإمكانات. وعندما تكون الوحدة ذات جذور عميقة في واقع الأفراد والمجتمع، فإنها تؤمّن القدرة على محاربة الأخطاء، والتسديد والمقاربة في الأقوال والأفعال.

وقد يرى أناس أن محاربة فلان أو فلان، ومقارعة هذه المجموعة أو تلك، هي الأمر الذي يستحق أن يركّز فيه جهوده، وأن هذا هو الضمان لتحسين الأحوال، والخلاص من عوامل الضعف والخلل. وتلك نظرة خاطئة، مبنيّة على تصور جزئيّ للواقع، وفهم قاصر لسنن العلاقات بين الأفراد والمجتمعات.

إن محاربة الخطأ ليست موضع نزاع، ولا يرفضها عاقل، لكن من أهم متطلبات هذا الأمر أن يوجَد الإنسان القادر على تمييز الخطأ والصواب، وتحديد موضع الخلل، والفصل بين أعراض المرض وأسبابه. ومن أهم مواصفات هذا الإنسان أن تكون نظرته لذاته موضوعية مُنْصفة، فلا يرى نفسه معصوماً، ولا يمانع من أن يُنصَح ويقبل التسديد وأن يقول لنفسه: لقد أخطأتُ، قبل أن يقولها لغيره. والإنصاف خُلقٌ فعّال في أُلفة القلوب.

وعندما يعمّم نموذج الإنسان الذي لا يَعُدّ نفسه معصوماً من الخطأ، فسيتحمّل كل فرد مسؤوليته، ولن يتحول الموقف إلى تقاذف الاتهامات، وإلقاء التّبعات، لأن الهدف لن يكون دفاع كل امرئ عن نفسه، ورفع المسؤولية عن تصرفه، بل سيكون الوصولَ إلى تفاهم يحمل معه فهماً للواقع، وإحقاقاً للحق.

وعندما يسود إنصاف كل امرئ من نفسه، والتفات كل فرد إلى أخطاء نفسه قبل أخطاء غيره، ستضعف العصبية والتعصّب، وهما أهم أعداء الوحدة ونقائضها، لأن التعصب في أصله حكم خاطئ مبنيّ على نظرة خارجة من حد الاعتدال، ترفع قوماً، وتضع آخرين.

وبهذين الأمرين: تحمّل المرء تبعات أعماله، وتعاليه عن التعصّب الذميم، يمكن معالجة أسباب النزاع والتمزّق، وتهيئة أجواء النقد البنّاء، والكلمة الصادقة التي تتجرّد دوافعها عن الانتصار للنفس، وتحقيق المصلحة الشخصية أو الطرفية أو الحزبية.

والنقد الموضوعي البنّاء مسألة أبرزت أهميتها تجارب الإنسانية في مواقف ومراحل شتى، والتقت الآراء والطروحات على ضرورته وأهمية دوره.

إن الفرد الذي يقبل بمبدأ اتهام نفسه، ويقبل أن يُعَرّفَ على عيوبه هو إنسان حساس في مجالس الوعظ ومواقف العبرة، لأنه يَعرِض نفسه على ما يتلقاه من أوامر الشرع ونواهيه، قبل أن يعرض سواه. وهو غير ذلك الإنسان الذي يجلس في مجلس الموعظة، ويخطر بباله كل شيء إلا أن يكون شيء مما سمعه في هذا المجلس موجَّهاً إليه، وإلا أنه يمكن أن يتهم بخطأ أو يعاب عليه تقصير. وما يقال هنا عن الفرد يقال نحوه عن الحزب والجماعة.

وأولئك الذين يقبلون الموعظة، ولا يرون أنفسهم أكبر من الخطأ، هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب، وأولئك هم الذين يمكنهم أن ينقلوا توجيهات الشرع من ميدان الأقوال إلى ميدان الأفعال، والذين يمكنهم أن يصلحوا بفعلهم وقولهم معاً.

ولسنا بذلك نعني الامتناع عن محاسبة المخطئين، ومفاتحة المقصرين، وأن نكتفي بـ "عفا اللهُ عمّا سلف، ولنبدأ من جديد"، ونلغي مبدأ التقويم، ونتسبب بالوقوع في مزيد من التخبط والأخطاء.

ليس هذا مقصدنا، فمبدأ المحاسبة والتقويم ضروري لتمتين البناء الداخلي، وتحسين الأداء الخارجي، وذلك أمرٌ واضح. لكن وجود مبدأ اتهام المرء لنفسه في موقف المحاسبة والتقويم، عند كلّ من السائل والمسؤول، هو ضمان تحقيق العدل، والاقتراب من الصواب.

كما أننا لا نعني أن جميع الأفراد متساوون في مقدار تحمل مسؤولية الخلل والخطأ. إذ لا بد أن نُقرّ أن موقع كل إنسان وقوة تأثيره في الحدث الذي يراد تقويمه، يحدّدان مقدار مسؤوليته عن الحدث ونتائجه.

إن الخطأ الذي يقع من فرد أو من طرف، قد يكون بسبب ضعف رؤيته أو خطأ اجتهاده، وقد يكون بسبب ضعف إمكاناته، وقد يكون بسبب ضغوط قاهرة في ظروفه الخارجية... لكن هذا كله لا يمنع من سؤاله، ولا يعطيه الحجّة ليعدّ مساءلته إهانةً له.

قضية الوحدة إنما تبدأ من النفوس، وهي تعني كل فرد وكل جماعة، وعندما يكون الفرد (والجماعة والكتلة) منصفاً مع نفسه، يمكن أن يكون منصفاً مع الآخرين، مؤهلاً لأن يصلح ذاته ويصلح مجتمعه. ولنتذكر دائماً: (إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين