حكم الإسلام في الشكوك والأوهام

روى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنَّ أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: (أوَقد وجدتموه؟) قالوا: نعم. قال: (ذاك صريحُ الإيمان) .

 

ذهب ناس من الصحابة رضوان الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتونه فيما يجدون في أنفسهم من الخواطر والأحاديث الشيطانية في أمر الدين، وأنهم يستعظمون ذلك وينكرونه ولا يستطيعون التلفظ به، ولم يجرؤ أحد من الصحابة رضي الله عنهم أن يصرح بأعيان تلك الخواطر التي اعترتهم حتى بلغت بهم شدّة الحذر من ذلك مبلغاً يسره لنا حديث ابن عباس عند أبي هريرة رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما يود أن يكون حُممة (1) أحب إليه من أن يتكلم به.

ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد بُعث ليعلِّم الناس كل ما يعنيهم من أمر دينهم لم يجد حرجاً أن يذكر لنا بصريح العبارة مثالاً مما يجده الناس في صدورهم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: (يأتي الشيطانُ أحدَكم يقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلقَ كذا؟ حتى يقول له مَن خلق ربَّك، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله وليْنته)

أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي معنا: (أوَقد وجدتموه؟) فهو استفهام تقرير، أي أقد كان ذلك الوسواس، وقد وجدتم منه في صدوركم هذا الانقباض والاشمئزاز؟ يشير صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنه كان من المتوقع حدوث الوساوس للمؤمنين على هذا الوجه ثم لا تنشرح لها صدورهم.

أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك صريح الإيمان) فها هنا مرجعان لاسم الإشارة بحسب اللفظ، فإن كان المشار إليه هو إنكار هذه الخواطر واستعظامها والخوف من النطق بها فضلاً عن اعتقادها، فلا شبهة في أن ذلك من علامات صحة الإيمان، وخلوصه من شوائب الشكوك والأوهام.

أما إن كان المشار إليه هو حدوث تلك الوساوس كما هو ظاهر عند مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الوسوسة فقال: تل محض الإيمان) فربما عدَّ من المشكل المحتاج إلى بيان، إذ كيف تكون الوسوسة محض الإيمان أو علامة محض الإيمان؟

وبيان ذلك أن الوجدانات التي تعتري المرء في المسائل الاعتقادية على ضربين:

أحدهما: ضار، بل خطر يهدم بنيان الإيمان وهو ما كان بشبهة معيَّنة توجب ريبة في أصل من أول الدين، ولم تجد النفس حلاً لتلك الشبهة، بل وجدت من العقل تأميناً عليها، ومن القلب ركوناً إليها، فهذا الضرب لا نسميه وسوسة، بل يسمى إغواء وتضليلاً، أو غيَّاً وضلالاً، وذلك هو سلطان الشيطان الذي يقول الله تعالى فيه:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99-11].

روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يبعث الشيطان سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة).

وروي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله أومعي شيطان؟ قال: نعم، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم. قلت: ومعك يارسول الله؟ قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم).

والثاني: هو المسمَّى بالوسوسة أو حديث النفس، وهو ما لم تجتمع فيه تلك الصفات، بل تجرد منها كلاً أو بعضاً، فذلك ليس إلا نزعة أو إلمامة وقتية يلقيها الشيطان في أمنية الإنسان ثم لا تلبث أن ينسخها لله من صحيفة صدره ويربط على قلبه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ(202) }. [الأعراف].

إذا تقرر هذا استطعنا أن نفهم معنى كون الوسوسة في الإيمان علامة الإيمان، ذلك أن الوسواس الخناس متى آنس من قرينه استعدادً لقبول الشبهات ساقها إليه تترى، واسترسل معه فيهاحتى يغويه ويضله، فعدم استرساله معه دليل على أنه آيس من إغوائه، وأنه وجد فيه من المناعة ما يحميه من سلطانه، وهي من هذه الجهة نعمة يحمد الله عليها.

بل إننا إذا أنعمنا النظر في حكمة ابتلاء المؤمنين بهذه الزلازل السطحية وجدنا فيها كثيراً من الذكرى والتبصرة، فإنما يريد الله بها أن يصهر قلوبهم بنار الخوف على ايمانهم ليزدادوا حرصاً عليها والتجاء إلى الله تعالى في حفظها، فهو سبحانه الذي بيده مفاتيح القلوب ومغاليقها يقلبها كيف يشاء.

فإذا عرف المؤمن ذلك ازاداد اتهاماً لنفسه وتأدباً مع ربه سبحانه، فلا يشمخ بأنفه، ولا يمن على الله تعالى بإيمانه، بل تكون هذه تذكرة له بسالف نعمة الله عليه إذ هداه من قبل إلى الإيمان، وتبصرة له بدوام حاجته إلى ربه في عصمته وتلبيته، فيزداد التجاء إليه تعالى، وحذراً من مكره، وبراءة من حَول نفسه وقوته، إلى حَول الله تعالى وقوته، ويقول كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]

أو كما يقول الراسخون في العلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران:8].

حتى إذا انكشفت عنه تلك الغُمَّة وسُرِّي عنه ما كان يجده قال: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف:43].

وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم فاطرَ السموات والأرض عالمُ الغيب والشهادة ربَّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي، اللهم لا تؤمني مكرك، ولا تَولني غيرك، ولا تنزع عني سترك، ولا تنسني ذكرك، ولا تجعلني من الغافلين، اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين الأبد).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الثامن، السنة التاسعة، 1375هـ =1955م.

(1) الحممة بضم ففتح: وهو الفحم وكل ما احترق من النار

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين