الإخلاص

الحمدُ للهِ الذي يؤيدُ بنصرِه منْ يشاءُ ، سبحانَه لا يعزبُ عنْه مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ ، الذي فتحَ اللهُ بهِ أعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً ، ومهدَ بهِ كلَّ سبيلٍ قويمٍ ، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ ، وجميعِ المؤمنينَ .

وبعدُ أيُّها المسلمونَ ! اتقُوا اللهَ ، واعلموا أنَّ الإخلاصَ سرٌّ عظيمٌ يقذفُه اللهُ في قلوبِ منْ اصطفى منْ عبادِه ، ليقودَهم إلى جلائلِ الأعمالِ ، ويحببَهم في أحسنِ الفعالِ ، يبعثُ فيهم الهممَ العاليةَ ، والعزيمَةَ الصادقةَ ، والإرادةِ القويةِ ، ويربي فيهم روحاً طيبةً طاهرةً ، وضميراً سليماً حياً ، فهوَ الذي يبرئُ العملَ منْ العيوبِ ، ويخلصُ منْ المساوئِ والذنوبِ ، وهوَ عمادُ الأعمالِ ، وسرُّ النجاحِ . 

ولقدْ حرصَ المسلمونَ الأولونَ على هذا الإخلاصِ ، وتلكَ الروحِ الطيبةِ ، فوهبِ اللهُ لهم عزَّ الحياةِ وكرامتَها ، ونصرَهم على أعدائِهم نصراً مؤزراً ، سمعَ خالدُ بنُ الوليدِ رجلاً يقولُ : ما أكثرَ الرومَ ، وأقلَّ المسلمينَ ! فقالَ خالدٌ : ما أقلَّ الرومَ ، وأكثرَ المسلمينَ ! إنَّما تكثرُ الجنودُ بالنصرِ ، وتقلُّ بالخذلانِ . الخبر رواه الطبري في التاريخ 2/337 . 

ذلكَ قولُ الواثقِ بإيمانِه ، المخلصِ في عملِه ، المتفاني في رضى ربِّه ، المراقبِ للهِ في سرِّه وعلانيتِه ، وبذلكَ كتبَ اللهُ لهمْ العزَّ الذي لا يدانى ، والسلطانَ الذي لا يضاهى ، فقهروا الجبابرةَ ، ودوخوا الأكاسرةَ ، وملكوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها ، وأدركوا بإخلاصِهم وصفاءِ سرائرِهم ما لم تدركْه الجيوشُ على كثرتِها وقوةِ عدتِها . 

يحدثُنا التأريخُ أنَّ المسلمينَ على عهدِ الفاروقِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه حينَما اتحدتْ كلمتُهم ، وخلصَت نيتُهم ، انتصروا في كلِّ المعاركِ ، فلمْ تنكسْ لهم رايةً ، ولمْ ينهزمْ لهم جيشٌ ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منْهم يعملُ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ ، ورفعِ شأنِ دينِه ، ناسياً نفسَه وحظَّها ، الإنسانُ متى خلصَت نيتُه ، وصفَت سريرتُه ، وقويَ يقينُه ، كفاهُ اللهُ ما بينَه وبينَ الناسِ ، ومعونةُ اللهِ تعالى للعبدِ ، تكونُ على قدرِ إخلاصِه ، ونجاحُه يكونُ على حسبِ نيتِه ، قالَ الحسنُ رضي الله عنه : منْ خافَ اللهَ أخافَ اللهُ منْه كلَّ شيءٍ ، ومنْ خافَ الناسَ أخافَه اللهُ منْ كلِّ شيءٍ . 

وفي ذلكَ يكتبُ عمرُ رضي الله عنه إلى القائدِ سعدِ بنِ أبي وقاصٍ رضي الله عنه :

" أما بعدُ فإنِّي آمركَ ومنْ معكَ منْ الأجنادِ بتقوى اللهِ على كلِّ حالٍ ، إنَّ تقوى اللهِ أفضلَ العدةِ على العدوِّ ، وأقوى المكيدةِ في الحربِ ، وآمركَ ومنْ معَك ، أنْ تكونوا أشدَّ احتراساً منْ المعاصي منْكم منْ عدوكَ ، فإنَّ ذنوبَ الجيشِ أخوفُ عليهم منْ عدوِّهم ، وإنَّما ينصرُ المسلمونَ لمعصيةِ عدوِّهم للهِ ولولا ذلكَ لمْ تكنْ لنا بهم قوةً ؛ لأنَّ عددَنا ليسَ كعددِهم ، وعدتَنا ليسَتْ كعدتِهم فإنْ استوينا في المعصيةِ ، كانَ لهم الفضلُ علينا في القوةِ ، وإنْ لمْ ننصرْ عليهِم بطاعتِنا لمْ نغلبْهم بقوتِنا ، واعلموا أنَّ عليكم في سيرِكم حفظةً ، يعلمونَ ما تفعلونَ ، فاستحيوا منْهم ، ولا تعملوا بمعاصي اللهِ وأنتُم في سبيلِ اللهِ ، واسألوا الله العونَ على أنفسِكم كما تسألونَه النصرَ على عدوِّكم " .

هذهِ النصائحُ الغاليةُ ، والإرشاداتُ الساميةُ هيَ التي كونَت رجالاً وأبرزَت أبطالاً لا تزالُ آثارُهم باقيةً ، وأعمالُهم خالدةً ، فراقبوا اللهَ واهتدوا بهديِ دينِكم ، واقتدوا بسيرةِ سلفِكم . 

لينجزَكم اللهُ وعدَه وتعيدوا للإسلامِ عزَّه ومجدَه ، [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] {الرعد:11} . 

[ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الأنفال:53} .

فلا بدَّ للمسلمينَ اليومَ إذا أرادوا العزةَ والقوةَ والنصرَ منْ أنْ يعودوا إلى دينِهم ، ويخلصوا في أعمالِهم قالَ اللهُ تعالى :[وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] {البيِّنة:5} .

 نشرت 2010 وأعيد تنسيقها ونشرها 8/4/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين