مختارات من تفسير

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] 

السؤال الأول:

ما دلالة المثل في هذه الآية؟ ولماذا ذهب بنورهم وليس بنارهم؟وما الفرق بين الضوء والنور؟

الجواب:

1ـ هذه الآية الكريمة من مجموعة آيات تكلمت عن المنافقين, ومعلوم أنّ المنافقين إنما سُمُّوا بهذه التسمية؛ لأنّ ظاهرهم مع المسلمين وباطنهم في حقيقة الأمر أنهم مع الكفار, حتى قيل إنّ الكفار خير منهم؛ لأنّ الكافر صريح يقول: هو كافر, لكنّ المنافق يقول لك : هو مؤمن مسلم ولكنه يهدم ويخرّب من داخل المجتمع المسلم.

فضرب الله عز وجل لهم هذا المثل , ووجود النار في الصحراء عند العرب مثال معروف على الظهور والانكشاف وهداية الضالّ ,والأمثال تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه .

2ـ الآية تتحدث عن شخص أوقد هذه النار ولمّا أوقدها وتعالى لهيبُها أضاءت ما حوله، وامتدت هذه الإضاءة إلى مسافات بعيدة واستناروا بها. ونحن نقول: إنّ هذا المثل يمكن أنْ يحمل أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو مثل الموقِدِ لهذه النار الهادية, فلمّا جاءوا من حولها ورأوا هذا النور وتذوقوا حلاوة إيمان طمسوا بأنفسهم على قلوبهم ولم يستفيدوا شيئاً من ذاك النور الذي علا ضوؤه .

و نلاحظ أنّ مضمون: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17] هنا فرد، ومضمون: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } [البقرة:17] هو حوله أناس، فالعربي لا يعيش وحده، فلمّا يوقد النار تكون قبيلته حوله, فهم أيضاً يستضيؤون بهذه النار وكذلك الأغراب البعداء يهتدون لهذه النار {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] هم عاشوا في ضوء ولو لحقبة يسيرة، اطلعوا على الإسلام بخلاف الكافر الذي كان يضع إصبعيه في أذنيه ويقول: لا أسمع. 

3ـ والمثل هو لبيان صفة المنافقين , ومُثلت الجماعة بالواحد؛ لأنه يجوز في اللغة وضع (الذي) موضع (الذين) كقوله سبحانه و تعالى: { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] أي المراد جنس المستوقدين أو الفوج الذي استوقد ناراً .

4ـ والفرق بين النور والضوء، أنّ النور لا يكون فيه حرارة , أمّا الضوء ففيه حرارة ومرتبط بالنار، والإنسان يمكن أنْ تأتيه حرارة الضوء، فالنار المضيئة إذا خفتت وخمدت يبقى الجمر وهو من مخلفات النار وهو بصيص يُرى من مسافات بعيدة، فلمّا يقول تعالى: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] يعني أصغر الأمور التي فيها هداية زالت عنهم، ولو قال في غير القرآن: ذهب الله بضوئهم، فتعني أنه ذهب الضوء لكنْ بقيت الجمرات، لكنّ يريد القرآن أنْ يبين أنّ هؤلاء بعد أنْ أغلقوا قلوبهم: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] لا يبصرون شيئاً حتى الجمر الصغير ما بقي عندهم.

السؤال الثاني:

ما الفارق بين أذهب نورهم، وذهب بنورهم؟

الجواب:

أذهبت هذا الشيء، أي: جعلته يذهب أذهبته فذهب، أنت فعلت وهو أيضاً استجاب للفعل، فلو قال: أذهب الله نورهم، كأنها تعني أنّ الله أمر النور أنْ يذهب فاستجاب وذهب، لكنّ هذا الذي ذهب قد يعود.

أما صورة: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] كأنّ الله تعالى اصطحب نورهم بعيداً عنهم, وما اصطحبه الله عز وجل لا أحد يملك أنْ يعيده، وهذا نوع من تيئيس الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين؛ لأنّ الجهد معهم ضائع .

فقوله تعالى : {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] يعني مضى به واستصحبه، وهذا يدلك أنه لم يبق لهم مطمع في عودة النور الذي افتقدوه.

وهذه خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم , فلا يقولن إنسان: إنّ هذا الشخص لا نفع من ورائه فلا داعي لوعظه وتذكيره, إذ إن الله سبحانه خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، وهو أنّ هؤلاء المنافقين قد انتهى أمرهم. 

السؤال الثالث:

ما سبب استخدام المفرد والجمع في قوله تعالى في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] ؟

الجواب:

1. من الممكن ضرب المثل للجماعة بالمفرد، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل:92].

2. اسم الموصول (الذي) قد يستعمل للفريق وليس للواحد فقط والمقصود بـ(الذي) في الآية ليس الشخص إنما قد تدل على الفريق, ويقال عادة: الفريق الذي فعل كذا ولا يقال: (الفريق الذين).

3. كما يمكن الإخبار عن الفريق بالمفرد والجمع: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] .

4. لفظة (الذي) نفسها يمكن أنْ تستعمل للمفرد والجمع، كما جاء في الشعر العربي:

وإنّ الذي حانت بِفَلجٍ دِماؤُهم= همُ القومُ كُلُّ القومِ يا أُمَّ خالدِ

السؤال الرابع:

لماذا استعمل التأنيث في قوله تعالى: {أَضَاءَتْ} ؟

الجواب:

قوله تعالى: {أَضَاءَتْ} التأنيث في الفعل للحمل على المعنى؛ لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء, ويعضد ذلك قراءة ابن أبي عقلة (ضاء) .

والفعل (أضاء) قد يكون لازماً أو متعدياً يُقال : أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها.

السؤال الخامس:

ما دلالة حذف المفعول به في قوله تعالى: { يُبْصِرُونَ} ؟

الجواب:

كأنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إليه، كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً .

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين