الظلم: الشِيمة.. والعِفّة.. والعِلّة

قال المتنبّي:

والظلمُ مِن شِيَم النفوسِ، فإنْ تَجِدْ ذا عِفّة، فَـلِعلّةٍ لا يَظلِمُ

احتجّ بعض الباحثين على المتنبّي، لجعله الظلمَ شيمةً لازمة من شِيَم النفس البشرية ـ أي طبيعة من طبائعها ـ.. ورأوه قد ظَلم النوع الإنساني كلّه، بإلصاق هذه التهمة به..! فقد جعلَ الظلم هو القاعدة، وجعلَ العِفّة عنه، استثناء لايحصل إلا لسبَب (علّة) يقتضي وجوده..!

ولِما لهذا الموضوع من صِبغَة فلسفية ذات أبعاد شتّى (نفسية.. اجتماعية.. خلقية.. تربوية).. كان لابدّ من وقفة قصيرة عنده، لأهميته للنوع الإنساني كله..!

الظلم أنواع، منها:

*) الظلم الأعظم: وهو الشرك بالله.قال تعالى، على لسان لقمان: (يابنَيّ لا تُشركْ بالله إنّ الشِركَ لَظلمٌ عَظيم). سورة لقمان / آية 13/. ففي هذا الظلم اعتداء على أعظم حقيقة في الوجود، وهي وحدانية الله سبحانه وتعالى، التي بعث الأنبياء والرسل جميعاً، لتأكيدها في حياة الناس، وترسيخها في عقولهم وقلوبهم. والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدلّ على هذا المعنى، بأشكال متعدّدة..!

*) ظلم الإنسان لنفسه: وهو متعدّد الصور والوسائل والأساليب..!

*) ظلم الإنسان لأخيه الإنسان: وهو كذلك متعدد الصور والأساليب والوسائل..!

*) ظلم الإنسان لمخلوقات الله الأخرى، من غير النوع الإنساني: كالحيوان بأصنافه وأجناسه، وعناصر البيئة: من نبات وماء وهواء وتراب..!

أ) الظلم بأنواعه المذكورة آنفاً، موجود في الحياة البشرية،على امتداد الزمان والمكان، وهو مَظهر من أبرز مظاهرهذه الحياة، ومَعلَم من أجلى معالمها، تؤكّد ذلك رسالات السماء، وحقائق الأرض المحسوسة، التي يراها الإنسان ويسمعها، أينما كان في عالم البشر..!

ب) أكثر الناس يمارسون الظلم بطريقة ما، بنوع واحد من أنواعه، أو اثنين، أو أكثر من ذلك. وقد قال عزّ وجلّ، في كتابه الكريم: (وما أكثرُ الناسِ ولوْ حَرَصْتَ بمؤمنين) سورة يوسف /آية 103/. ومعلوم أن عدم الإيمان – أي الكفر – إنما هو ظلم من أسوأ الأنواع ! وقد وُصف به أكثر الناس.

ت) قال تعالى: (وإنّ كثيراً مِن الخُلَطاءِ لَيَبغيْ بَعضُهمْ على بَعضٍ إلاّ الذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصالحات). سورة ص / آية 24/. ومعلوم أن البغيَ ظلم.

ث) ومن يستعرض أنواع الظلم،التي يراها في حياته اليومية (ظلم الأفراد للأفراد، وظلم الحكّام لمواطنيهم، وظلم الدول للدول) لابدّ له أن يتساءل: 

هل الظلم حالة طارئة على حياة الناس ؟ أم هو أصل ثابت مستقرّ من أصول هذه الحياة!؟ وإذا كان أصلاً ثابتاً، فهل هو طبيعة من طبائع النفس البشرية، كما زعم المتنبي، أم استعداد كامن في هذه النفس، يَظهر في أكثر صور الحياة، وتمارسه أكثرية أفراد النوع الإنساني !؟ 

إن سورة العصر تؤكّد خسارة الإنسان عامّة، وتستثني فئة منه: (والعَصرِ* إنّ الإنسانَ لَفيْ خُسْرٍ* إلاّ الذين آمَنوا وعَملوا الصالحاتِ وتَواصَوا بالحَقّ وتواصَوا بالصَبْرِ). ومعلوم أن الخسر لايكون، إلاّ نتيجة لظلم يمارسه الإنسان نفسُه، فالله لايظلم أحداً.

ج) وعند العودة إلى الآية الكريمة، نرى بوضوح، أن الظلم ليس جبلّة جبِل عليها الإنسان، لافِكاكَ له منها، بل هو استعداد كامن في النفس، لممارسة الظلم، كالاستعداد الكامن، لممارسة العدل والخير. قال تعالى: (إنّا هَدَيناهُ السبيلَ إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً).سورة الإنسان / آية 3/.

د) وبناءً على ماتقدّم، ندرك أن الظلم ليس حكْماً ربّانياً، حكَم الله به على الإنسان، ولا قَدَراً لازماً قدّره عليه، بل هو حالة إنسانية، يمارسها الإنسان على نفسه، وعلى أفراد نوعه، بطَوعه واختياره.. ويَـقبلها الآخرون أو يرفضونها، بطوعهم واختيارهم. فلا عذْرَ لمن يمارسه، ولاعذرَ لمن يَـقبلها.. (والمضطرّ إلى السكوت على الظلم، وهو كاره له، يعذربحسَب ضرورته).

ه) وهنا نقف عند حالتين، من حالات الظلم، الشائعة، اليوم:

*) ظلم الحاكم لشعبه: وهو حالة من الظلم المزدوج: الحاكم ظالم، وعليه أن يدفع ضريبة ظلمه، والشعب المظلوم ظالم، لأنه قبل الظلم، وعليه أن يدفع ضريبة ظلمه. في الحديث الشريف: (إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: ياظالم.. فقد تُودِّع منها..). وفي الحديث الشريف أيضا: (سيّد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، فامَره ونَهاه، فقتله).

*) ظلم الدولة للدولة: والظلم هنا ثلاثيّ الأبعاد، الظالم الأول فيه: الدولة التي تمارسه ! والظالم الثاني: هو الحاكم الذي يقصّر في تقوية دولته، حتى يستضعفها الآخرون فيعتدوا عليها ! والظالم الثالث: هو الشعب الذي يقبل، من حاكمه، التقصير في تقوية الدولة وحمايتها، حتى يستبيحها أعداؤها، وينكّلوا بشعبها، وينهبوا ثرواته!

و) وهنا نصل إلى العفّة وعلّتها، لنكتـشف أن العلّة التي تَمنع من الظلم، أو تَردع عنه، أنواع، منها:

- الخوف من الله عزّ وجلّ: وهذه أسماها وأكرمها.

- الأخلاق والمروءات، التي يربّى عليها الفرد: وهذه تأتي بالدرجة الثانية، من حيث الرفعة والسموّ.

- العجز عن ممارسة الظلم، إذا كان العاجز راغباً فيه: وهذه حالة سلبية، لا فضلَ للعاجز فيها، وإن تَظاهَر بالعفّة !

- القوّة الرادعة: وهي التي تمنع المرء من الظلم، وتردعه عنه، سواء أكانت قوّة قانونية، أم قوّة واقعية (عسكرية.. ونحوها). وهذه القوّة، تَحديداً، هي التي تكشف حقيقة الديموقراطية، بوضوح وجلاء ـ في الدول التي تدّعيها ـ..! 

فالحاكم في الدول الديموقراطية، لايمنعه من الاستبداد، والتجاوز على الحقوق العامّة والخاصّة، في دولته، إلاّ القوّة الرادعة، التي ترصده، وتتربّص به (قوّة القانون.. قوّة الخصوم السياسيين.. قوّة وسائل الإعلام، التي تَفضح المُخالف، وتُشهّر به، وتسقطه..). ولعلّ الديموقراطي الحقيقي الوحيد، هو الذي يَجد مَن يَتصدّى له، ويردعه عن التجاوز! لايقول له: لا.. ثمّ يصمت. بل يقنِعه، بحزم، بأن كلفة التجاوز، أكبر، بكثير من مكاسبه..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين