قيمة الوالد ... بين الأمس واليوم

طلبت إلي ابنتي أن أساعدها في موضوع تعبيري عن بر الوالدين ، وحينما نبشت أوراق الذاكرة بحثاً عن قصة أبني عليها الموضوع وأقيم على أساسها المقالة ، قفزت من الحافظة تلك القصة المدهشة الغريبة العجيبة اللامتناهية روعة وجمالاً ... قصة الفضل بن يحيى البرمكي – والبرامكة جماعة كان منهم الوزراء والأمراء ، ولكنهم قام خلاف بينهم وبين رأس الدولة الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله فأودع قسماً منهم السجن ، كان منهم يحيى بن خالد بن برمك وابنه الفضل اللذان وقعت منهما القصة المُعجبة... .

فما هي القصة ؟ وأي شيء الخبر؟ ، لندعْ ولندعُ المأمون بن هارون الرشيد يخبرنا الخبر:

قال الْمَأْمُون : " لَمْ أَرَ أَبَرَّ مِنَ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى بِأَبِيهِ، بَلَغَ مِنْ بِرِّهِ بِأَبِيهِ: أَنَّ يَحْيَى كَانَ لَا يَتَوَضَّأُ إِلَّا بِالْمَاءِ الْحَارِّ، وَكَانَ فِي السِّجْنِ، فَمَنَعَهُمَا السَّجَّانُ مِنْ إِدْخَالِ الْحَطَبِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، فَقَامَ الْفَضْلُ حِينَ أَخَذَ يَحْيَى مَضْجَعَهُ إِلَى قُمْقُمٍ - ما يسخن فيه الماء من نحاس عادة ، ويكون ضيق الرأس - يُسَخِّنُ فِيهِ الْمَاءَ، فَمَلَأَهُ، ثُمَّ أَدْنَاهُ مِنْ نَارِ الْمِصْبَاحِ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا وَهُوَ فِي يَدِهِ حَتَّى أَصْبَحَ.

وَلكن السَّجَّانَ فَطِنَ لِارْتِفَاقِهِ بِالْمِصْبَاحِ فِي تَغْيِيرِ الْمَاءِ، فَمَنَعَهُمْ مِنَ الِاسْتِصْبَاحِ فِي اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ، فَعَمِدَ الْفَضْلُ إِلَى الْقُمْقُمِ مَمْلُوءًا فَأَخَذَهُ مَعَهُ فِي فِرَاشِهِ، وَأَلْصَقَهُ بِأْحَشَائِهِ حَتَّى أَصْبَحَ وَقَدْ فَتَرَ الْمَاءُ ".

أي بر هذا ... وأية رعاية تلك من ولد بوالده ... إن مثل هذه الأخبار إضافة لبعض الآيات والأحاديث والآثار، من مثل قوله تعالى في سورة الإسراء : وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ - أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

وقوله فيما رواه أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ ، وَلاَ مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلاَ مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ.

وقوله فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ لَهُ وَالِدَانِ مُسْلِمَانِ يُصْبِحُ إِلَيْهِمَا مُحْتَسِبًا، إِلَّا فَتْحَ لَهُ اللَّهُ بَابَيْنِ - يَعْنِي: مِنَ الْجَنَّةِ - وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَوَاحِدٌ، وَإِنْ أَغْضَبَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَرْضَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ "، قِيلَ: وَإِنْ ظَلَمَاهُ؟ قَالَ: «وَإِنْ ظَلَمَاهُ».

وفيما رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ.

وَقَول بَعْض الْحُكَمَاءِ: لَا تُصَادِقْ عَاقًّا، فَإِنَّهُ لَنْ يَبَرَّكَ وَقَدْ عَقَّ مَنْ هُوَ أَوْجَبُ حَقًّا مِنْكَ عَلَيْهِ .

كل هذه النصوص تضع شباب اليوم أمام مسؤولية مضاعفة تجاه الآباء براً بهم وسمعاً وطاعة لهم وانقياداً إليهم ، وشكراً لهم على ما قدموه لهم في سالف الدهر من أيادي بيضاء، وما أحسن قول القائل :

كم يا أبي لك من يدِ=عندي وكم لك من أثر

أنت الذي ربيــتني=ورعيتني منذ الصغـر

وغذوتــني وكسوتني=ووقيتني شر الغيــر

فإذا ألم بــي الضنى=حل الأسى بك والسهر

تدعو الطبيب ولا تني=حتى يجاوزني الخطر

وأفدتني العلم الــذي=هو كنز مالي المدخر

وتظل تكدح فب الحياة=لحاضري والمنتظر

هذي عوارفك الحسان=وتلك أيديك الغــرر

هي يا أبي دين علي=أرده عند الكبـــر

أيها الإخوة : 

قديماً كان العقوق عبارة عن كلمة تضجر أو نظرة شذر إلى الوالد : فقد قال ابن عباس: من نظر إلى أباه شزراً فقد عقه.

أما العقوق اليوم – ويح اليوم - فقد أمست له صور عديدة ...

إن من العقوق اليوم تسفيه رأي الآباء وازدراء أفكارهم ورد اقتراحاتهم، واعتبارهم ( موضة ) قديمة أو نماذج من الآباء عفا عليهم الدهر وأكل وشرب...

إن من العقوق اليوم الخروجَ عن سنن الأسرة والتمرد على قراراتها.

إن من العقوق اليوم الإساءةَ إلى سمعة رب العائلة عبر تصرفات شائنة...

إن من العقوق اليوم تفضيلَ الصديق على الأب واعتماد صحبته وتصحيح آرائه.

فيا أيها الشباب ... حافظوا على آبائكم واحفظوا قلوبهم من أن تنكسر ودموعهم من أن تنهمل ...

ويا أيها الشباب اعرفوا لكباركم حقهم .... ليس الوالدَ فحسب بل كلَّ كبير في العائلة ... كل كبير في الديوانية ... كل كبير في الحي ... كل كبير في المسجد ... كل كبير في الشارع ... كل كبير في البلد .

ويا أيها الشباب : إن تلك التجاعيد في جباههم والأخاديد في وجوههم والتعب في أطرافهم لم تأت من فراغ ولم تحدث عن عبث ... بل عن خبرة وتجارب ومعاركة للحياة ومغالبة للحدثان ... ولا خير في الاستغناء عن تلك الخبرة ... كما قال أبو الأسود الدؤلي لشاب متحمس متنطع : لا خير لك في حرف العربية لم يبلغ عمك . وكذا أكابرنا ... لا خير في قضية لا يؤخذ فيها بآراء الكبار ولا يصار فيها إلى طريقتهم.

إنني تصلني في كل يوم من أحد الأصدقاء الكرام رسالة يختمها بقوله : مما حدثني أبي ... تحمل في طياتها كل عقل، وتحفل بكل حكمة، وتسدي إلى كل من يتلقاها كل خبرة عبر السنين الطويلة في هذه الحياة ... وهكذا فلتكن الإفادة من الآباء ، والانتفاع بآرائهم السديدة وتوجيهاتهم المفيدة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين