مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو

روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله).

المعنى:

الغيب قسمان: غيبٌ حقيقي مطلق، وهو ما غاب علمُه عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله عزَّ وجل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ} لأالنمل:65] 

وغيب إضافي وهو ما غاب عن بعض المخلوقين دون بعض، كالذي يَعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره، ولا يعلمه البشر مثلاً.

وأما ما يعلمه بعض البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها، فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله تعالى.

وهذه الأسباب منها ما هو علمي كالدلائل العقلية والعلمية، فإنَّ بعض علماء الرياضيات وغيرها يستخرجون من دقائق المجهولات ما يَعجز عنه أكثر الناس، ويضبطون ما يقع من الخسوف والكسوف بالدقائق والثواني قبل وقوعه.

ومنها ما هو عملي كاللاسلكي الذي يعلم المرء به بعض ما يقع في أقاصي البلاد التي بينه وبينها ألوف الأميال.

ومنها ما قد يصل إلى حد العلم من الإدراكات النفسية الخفية كالفراسة والإلهام، وأكثر هذا النوع من الاكتشاف إن هي إلا لوائح تلوح للنفس لا تجزم بها إلا بعد وقوعها، فما يصل منها إلى حد العلم الذي يجزم به صاحبه لاستكمال شروطه، يشبه ما ينفرد بإدراكه بعض الممتازين بقوة الحاسَّة كزرقاء اليمامة التي كانت ترى على بعد عظيم ما لا يراه غيرها، أو بقوة بعض المدارك العقليَّة كالعلماء الذين أشرنا إليهم آنفاً.

والحكمة في كون شؤون الغيب التي أشار إليها الحديث خمساً هو الإشارة إلى حصر العوالم فيها.

فأشار إلى ما يزيد في النفس وينقص كقوله: (لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله)؛ أي: ما تنقصه، يقال غاض الماء نقص، وما تزداد أي: ما تحمله من الولد، على أي حال هو من ذكورة وأنوثة وعدد، فإنها تشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأربعة، أو مدة الولادة فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى أربع عند الشافعي، وإلى سنتين عند الحنفية.

وأشار إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث بقوله: (ولا يعلم ما في غد) من خير وشر وغيرهما (إلا الله)، وعبَّر بلفظ (غد)؛ لأنَّ حقيقته أقرب الأزمنة، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه فما بعده أحرى.

وأشار إلى العالم العلوي بقوله: (ولا يعلم متى يأتي المطر) ليلاً ونهاراً (إلا ا لله) نعم إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء الله تعالى من خلقه.

وأشار إلى العالم السفلي بقوله: (ولا تدري نفسٌ بأي أرض تموت إلا الله) أي: أين تموت، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها، وقالت لا أبرح منها، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها. 

كما رُوي أنَّ ملك الموت مَرَّ على سليمان بن داود عليهما السلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يُديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: كأنَّه يُريدني فمُرِ الريحَ أن تحملني وتلقيني بالهند، ففعل، فقال ملك الموت: كان دوام نظري تعجُّباً منه، إذ أُمرتُ أن أقبضَ روحه بالهند، وهو عندك.

وفي الطبراني الكبير عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جعل الله مَنِيَّة عبدٍ بأرض إلا جعل له فيها حاجة).

وإنما جعل العلم لله، والدراية للعبد؛ لأنَّ الدراية معنى الحيلة، والمعنى أنها أي النفس لا تعرف وإن أعملت حيلتها ما يختص بها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد.

وأما المنجِّم الذي يخبر بوقت الغيب والموت؛ فإنَّه يقول بالقياس والنظر في المطالع، وما يُدرك بالدليل لا يكون غيباً، على أنَّه مجرَّد الظنِّ، والظنُّ غير العلم.

وأشار إلى علوم الآخرة بقوله: (ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) فلا يعلم ذلك نبي مُرسَل، ولا مَلَك مُقرَّب.

وفي هذا الحديث تنبيه لطريق أهل الفضل، وهو ترك الالتفات إلى ما سواه عزَّ وجل، والاشتغال بما به أمر، والانتهاء عما عنه نهى.

قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد السادس، السنة الثانية عشرة، 1378،1958.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين