أقرب الناس مجلساً من النبي صلى الله عليه وسلم

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ مِن أَحَبِّكم إليّ وأقرَبِكم مِنّي مَجلساً يومَ القيامة أحاسِنكم أخلاقاً، وإنّ مِن أبغَضِكم إليّ وأَبعَدِكم منّي يوم القيامة الثَّرثارون والمُتَشَدِّقون والمُتَفَيهِقون". قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المُتفَيهقون؟! قال: "المتكبرون". أخرجه الترمذي، وهو حديث حسن.

في هذا الحديث مقابلة بين صنفين متباعدين، أحسن الناس أخلاقاً، في مقابل الثرثارين والمتشدقين والمتفيهقين، بالتعبير النبوي الكريم. 

حسب المعنى اللغوي لألفاظ الحديث، الثرثار هو كثير الكلام، الذي يتكلم في المواقف المناسبة وغير المناسبة، والمتشدق والمتفيهق معناهما متقارب، وهو الشخص الذي يسعى للاستعراض من خلال حديثه، إما باختيار الألفاظ التي يدعي فيها تميزه، أو من خلال نبرة الصوت وطريقة الحديث.

لماذا جُعل هذان الصنفان في مقابل بعضهما؟!! ولماذا كانت لهما هاتان المنزلتان المتباعدتان جداً، بين أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم وأبعدهم عنه؟!! وما هو الميزان الذي يدلنا عليه هذا الحديث؟

إن مما نحتاجه للإجابة عن هذا التساؤل أن نتذكر دلالة لفظة (حسن الخلق) في السنة النبوية، فهي تعني أن يعلم الإنسان السلوك الإيجابي ويلزمه، ويجعله عادة في تعامله مع الآخرين، لأن أصل كلمة (الخُلُق) في اللغة يتضمن السلوك الدائم المرتبط بالشخصية، فنقول: هذا خُلُق لفلان. وعندما تتحدث التعاليم الإسلامية عن حسن الخلق فإنها تضيف معنى التعلم للخلق الحسن، وتعني أن يصبح هذا الخلق سمة تظهر في المواقف الاجتماعية، وتعمل على استثارة الآخرين لأداء هذا السلوك، كما في الحديث الآخر: "وخالِقِ الناسَ بخُلُق حَسن".

لماذا اعتبر النموذج السلبي المقابل لنموذج حسن الخلق هو نموذج الثرثار المتشدق المتفيهق؟ يمكننا أن نلحظ اختلافين أساسيين بين هذين النموذجين:

الأول: أن صاحب الخلق الحسن يظهر حسن خلقه في كل جوانب سلوكه، في الجانب اللفظي، والعملي، وفي المواقف الاجتماعية المختلفة، مع نفسه، أو في أسرته، أو في عمله، أو في المجتمع الواسع. أما الثرثار المتشدق فيبدو منه سلوكه اللفظي، وهو جانب واحد من السلوك، قد لا يكون متسقاً مع الجوانب الأخرى ليبدو سمة من سماته.

الشخص حَسَن الخلق يوصف بأنه صاحب سلوك إيجابي متصل بكل جوانب السلوك، وممتد لمجال واسع من المواقف. أما الثرثار فلا يوصف إلا بكثرة الكلام، في السلوك اللفظي، وبالاستعراض في هذا الكلام، دون أن يظهر أثرٌ لاتصال ذلك بالجوانب الأخرى في شخصيته، ودون أن يثبت للآخرين أن الإيجابية سلوك متوقع منه في كل المواقف.

الاختلاف الثاني بين النموذجين هو في النظرة المتوقعة لكل منهما عند الآخرين، فحسن الخلق يتمكن من الوصول إلى التأثير في عواطف الآخرين وانفعالاتهم، وتصبح علاقته مع الآخرين علاقة حب. أما الثرثار المتفيهق فهو شخص قد يحصل على إعجاب الآخرين باستعراضه، لكنه لا يستطيع أن ينقل هذا الإعجاب إلى علاقة حب وتبادل إيجابي للمشاعر، ولكونه ثرثاراً قد يقابل نظرات الكراهية ومواقف الرفض في بعض الأحيان.

يبدو أننا نتحدث هنا عن مهارة أساسية من مهارات الذكاء الانفعالي، هي مهارة إدراك انفعالات الآخرين وتوقعها، ثم التأثير فيها والقدرة على تحويلها إلى رصيد إيجابي في كل موقف، وهذه المهارة يعجز عنها الثرثار المتفيهق، الذي يعيش فقط مع ذاته، وينتظر من الآخرين أن يقدموا له المديح.

والمفتاح المهم الذي يبدأ به الانسان اكتساب هذه المهارة هو حفظ لسانه، بحث ينتبه لمقدار كلامه، ويتمكن من الصمت كما يتمكن من الكلام، حسب إدراكه للموقف، كما ينتبه لحديثه عندما يتكلم، وليس ذلك فقط، بل ينتبه لطريقة الحديث وما يرافقه من حركات وأصوات ولغة جسد، ولا يقع في "فخ" الاستعراض، المؤدي للغرور، المؤدي لكراهية الآخرين والإساءة المستمرة لهم.

نسأل الله أن نكون من أقرب الناس مجلساً للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين