تداعيات التحصين الفكري على الأمن الاجتماعي 

مقدمــــة:

بات من الواضح للعيان أن التطرف الفكري والإرهاب والإلحاد ظواهر ظهرت كالطوفان الكاسح والإعصار المدمر الذين يزهقان الأرواح ويذلان الكرامة الإنسانية والأخطر من هذا هو تفكيك النسيج الاجتماعي بعد أن كان متلاحما ومتماسكا بمبادئ الشرع والقانون الذي يجسده دستور كل دولة تنص على ضرورة احترام اللغة والدين كمبادئ قومية للهوية العربية والإسلامية .

فالتكفير في مظهره متعلق بإنزال أحكام الكفر ، وعلينا وجب تعريف الكفر أولا وهو في اللغة نقيض الإيمان وله معان أخرى كجحود النعمة وهي مذكورة في المعاجم إذ يقال : كفر بالله "من باب نصر" يكفر كفرا وكفرانا ، فهو كافر ، والجمع كفارة ، وكفرة ، كوافر، أنظر :"لسان العرب" مادة (ك ف ر) ،كفا أيضا وهو :كفور ، والجمع كفر ، وهي كافرة .

قال الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (1/ 435): [ويقال: (كفر فلان) إذا اعتقد الكفر، ويقال ذلك: إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد؛ ولذلك قال تعالى ::

،سورة النحل106. (من كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ 

والكُفْر شرعًا: إنكار ما علم ضرورةً أنَّه من دين سيدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم كإنكار وجود الصَّانع، ونبوَّته صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة الزِّنا ونحو ذلك] ينظر: "المنثور في القواعد الفقهية" (3/ 84).) 

قال الإمام الغزالي في "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص: 156): [كل حكم شرعي يدعيه مدعٍ فإما أن يعرفه بأصل من أصول الشرع من إجماع أو نقل أو بقياس على 

أصل، وكذلك كون الشخص كافرًا إما أن يدرك بأصل أو بقياس على ذلك الأصل، والأصل المقطوع به أن كل من كذَّب محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فهو كافر. 

أما الإرهاب فلم يثبت تعريف واضح للظاهرة ، لأنه يتشكل من حمولة ثقافية متعصبة ومنغلقة تغذيه بيئة متخلفة ويقويه تعليم سطحي يعتمد على أسلوب التكرار والتلقين ،في ضوء غياب المنطق والواقع أين تنتج بالتكرار عشوائيات اجتماعية تطفح باليأس والإحباط والكراهية وينمو هذا السلوك ويتوغل فيها التطرف والتكفير والإلحاد وغيره من الظواهر المناقضة لمبدأي الوسطية والاعتدال .

ولربما سيشخص هذا المقال الخلل الحاصل في تشخيص قضايا الإرهاب المعاصر عبر آلية التحصين الفكري من حيث توضيح أهدافه ومرتكزاته ووسائله ،مفككا بذلك الخارطة الفكرية للجماعات المتطرفة وبالتالي خلقه لجو من الاستقرار الاجتماعي والتلاحم الفكري في توجه الرؤى نحو بناء الأوطان على عقيدة المعالجات الناجعة بالاستشراف على فضاء البدائل الممكنة من خلال طرح مجموعة من الوصيات التي تحافظ على وتيرة المسار الديمقراطي الحقيقي بالالتفاف حول وسطية التدين واعتدال الفكر .

أولا : غرس مفاهيم الإيمان في قلوب وعقول الأبناء أولى خطوات التحصين

نحن بحاجة ماسة إلى تربية عميقة لا عقيمة وإصلاح للداخل قبل الخارج وتعهد لحلاوة يمان ولو شابتها بعض التذبذبات في الثبات ، فالعودة إلى ميزان الاعتدال سنة مألوفة في زمن الفتن والشهوات .

فما نحن بحاجة اليه اليوم هو منهج دعوي مستنبط من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بعيدا عن الحماس المفرط والتمييع المبالغ فيه للقضايا المصيرية كمسلمين ،و بالتالي ضرورة كشف الشبهات وربط الأمهات لا المختصرات وسوء السؤال عن الحال ، فحال الأمة اليوم مضطرب ،و ينبغي أن نراعي في ذلك أهمية الوقاية من فتن آخر الزمان ، فقد ذكر الذهبي (رحمه الله) في سير أعلام النبلاء أن هناك رجلا يقال له بن الشقاء وكان يعلم الناس القرآن فذهب إلى بلاد الافرنج وساءت حاله حتى نسي القرآن كله ،بل ترك الإسلام ودخل النصرانية ، وقد قابله بعضهم وكان كبير السن وقد هزل ،ما فعل الله بك ؟ قال : على ما ترى ، وقالوا :أين القرآن الذي حفظته ،قال :نسيته إلا " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين" سورة الحجر ،الآية 2، وهذا في الحقيقة من الخطورة بمكان وقد ساقها بعض المؤرخون ولكننا نجد في القرآن إشارات كثيرة إلى أن الإنسان ينتكس ويعود عن طريق الحق ويقبل بالضلال بعد علمه بالحق ،و منه كانت عملية غرس العقيدة الصحيحة في الأجيال الصاعدة إحدى الأولويات المهمة لحفظ الإيمان من الانحراف وميول العقل نحو الخروج عن فطرة جبل الله بها المسلم خاليا من عيوب الشرك أو التكفير ،على الرغم من وجود أكثرية من يقرؤون ويدرسون ولكن القليل من يعي ويميز ويدرك ، لذلك كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو دائما "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ولنتوقف عند قول سيدنا إبراهيم " وأجنبني وبني أن نعبد الأصنام" سورة إبراهيم الآية 53.

ثانيا : مفهوم التحصين الفكري وآلياته 

التحصين اصطلاحا : فيه معنى الحصانة والمناعة والصيانة والحماية والحفاظ وهو من صيغ المبالغة الذي يدل على التكثير والمبالغة ، والتحصين له جوانب عديدة منها : 

1-التحصين في القسم الشرعي: وهو تحصين المسلم نفسه بالأذكار الشرعية التي تحميه من أذى الشياطين ،يعني حماية الإنسان مما قد يضر به .

2-التحصين بالقسم الدستوري : من خلال أداء اليمين الدستوري عند انتخاب رئيس دولة كضمانة لتحمل المسؤوليات وآداء الواجبات كما يحدده القانون .

و من خلال استقراء التحصين لغة فهو في معناه أخذ الحيطة والحذر الفكري وتعزيزه حماية للفكر مما قد يضر به أو يهدد أمنه من حيث الاقتناع والثبات ، وهو بمثابة صمام الأمان من العوامل الخارجية المعادية للسلم الفكري ،فالأمن الفكري إذن هو النتيجة المتوخاة من التحصين .

و الإسلام كان سباقا في المحافظة عليه من الزيغ والانحراف ، ونستحضر مقولة الإمام الغزالي رحمه الله : كثر الحث في كتاب الله عز وجل على التدبر والاعتبار والفكر هو مفتاح الأنوار وهو شبكة العلوم ، وأكثر الناس عرفوا فضله ورتبه ولكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره ،و في كتاب الله عز وجل دلالات على حسن التدبر منها قوله تعالى " إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار " سورة آل عمران الآيتان 190-191.

وقوله أيضا " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " سورة الحشر 20-21.

أما آليات التحصين الفكري في ظل تأثير العولمة فهي كقاعدة أولية نبذ التقليد الأعمى للأفكار الغربية وما تحمله رياح التغريب من ثقافات لا تمت بصلة لقيمنا ولهويتنا الثابتة ، وضرورة التجرد للحقيقة والابتعاد عن التعصب للآراء المميعة التي لا تحمل ثقلا ثقافيا غزيرا يعود بالفائدة في تعزيز ودعم وعينا الفكري بما يجول حولنا من حولنا من مؤثرات قد تكون خارجية كما بالإمكان أن تكون داخلية تبث سموم التفرقة والتشتت بأفكار تخدم أجندات خارجية ولا تمت بصلة لاستقرار الأمن الاجتماعي للبلد ، فأعداء الإسلام والمسلمين دائما ما يشنون حربا فكرية تحمل قالبا غزو للأفكار بدل غزو السلاح وهو رداء جديد يرتديه المستعمر الذي يجدد الأساليب والطرق حتى لا تهنا الدول محل الأطماع إلى الأمن والاستقرار وهو ما تشهده غالبية دول الشرق الأوسط بسبب الطائفية والأفكار الإيديولوجية التي تسعى لأن تقود الفكر إلى حيث الانسلاخ من الهوية والابتعاد عن املاءات الفطرة الحقيقية التي تفرض على المسلم التمسك بقواعد التربية السليمة ودوافع الاستمرارية والديمومة من خلال الفكر المتزن والنظيف البعيد عن أشكال التطرف وانتهاج صور الإرهاب المختلفة .

كذلك يعتبر الفكر الصحيح المبني على الاستدلال من بين الآليات التي تعتمد على التأمل والتفكر بتجرد ،و هو ما يقود إلى الإيمان بالله وتوحيده والخشية منه ، ومن الآيات التي تجسد ذلك قوله تعالى " لآيات لقوم يتفكرون" وكذلك " لآيات لقوم يعقلون " وغيره من الأدلة القرآنية التي تدعونا للنظر في خلق الله تعالى وتبجيل عظيم صنعه ودقة التوازن في سيرورة الكواكب وبث الحياة في موجودات الأرض والسماء .

ثالثا : نتائج التحصين الفكري على الأمن الاجتماعي 

قال تعالى "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ، انه بما تعملون بصير" سورة هود الآية 112. ، ومن الاستقامة ما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة ، وما كان نهيا عن القصور والتقصير ،و الاستقامة بمعنى عدم الغلو في المبالغة التي تحول الدين من دين يسر إلى دين عسر ،بل التزام الثبات على نهج مستقيم كان لنا في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم القدوة والنموذج والطريقة الصحيحة للعيش على النحو الذي ارتضاه الله لنا ، والإفراط والغلو يبعدان الدين عن طبيعته الحقيقية كالتقصير أو المغالاة ، وهي ميزان صارم لامساك النفوس بثبات على الصراط بلا انحراف ، أو إهمال على السواء ،مصداقا لقوله تعالى "و ألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا" سورة الجن ،الآية 16.

ومنه يمكن استخلاص آثار التحصين الفكري على الأمن الاجتماعي وذلك من خلال ما يتحقق كأهداف من تأصيل الفكر الوسطي والحفاظ على الالتزام الديني بقواعد العقيدة الصحيحة ، ومنه كانت الآثار :

1-الطمأنينة والسكينة .

2-التكافل الاجتماعي والاستقرار الحياتي باحترام الآراء وحريات الغير .

3-تحقيق سبل التواصل الدائمة بقنوات الحوار الرزينة والهادفة بعيدا عن لغة الجفاء والقطيعة وخطاب الكراهية الذي سعت إليه دول معادية للإسلام في أن تجعل من خطاب الكراهية شعور بالتهميش في التفاعل الايجابي الدولي والوطني على السواء بما رسمته قوانين عديدة منها قانون حماية حقوق الإنسان وقانون حرية الرأي وقانون احترام الحريات الفردية الذي جسدته مواد في الدستور الوطني لكل دولة تؤمن أن الفكر المتزن يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي وغلق الأبواب في وجه الإرهاب وزرع الفتنة بين أفراد المجتمع الواحد .

4- تنفيذ الردع إزاء كل انحراف خطير بالفكر المتزن من خلال تطبيق العقوبات والجزاءات التي تحفظ امن المجتمع واستقراره وتبعده عن مساعي الإيقاع به في الانسلاخ والتميع والتشتت ، إذ يتبين أن مصطلح "التحصين الفكري" في الإسلام هو إحاطة الفكر بسياج منيع لحفظ فكره في مأمن من الزيغ والانحراف الذين يؤديان إلى الضلال مصداقا لقوله تعالى" وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " سورة الأنعام الآية 153.

وهناك جانب في القرآن يوضح كيف أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأحزابا وعلى المؤمنين الحذر منهم مصداقا لقوله تعالى " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون" سورة الأنعام الآية 159.

5-تقوية الاعتصام بشرع الله تعالى من خلال رؤية إسلامية تربط أحكام الحياة بالله رباط المصدر والغاية في قوله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا "سورة آلا عمران الآية 103.

خاتمة :

لعل موضوع التحصين الفكري موضوع مهم وسنستغل الخاتمة من أجل رسم بعض التوصيات الأساسية من اجل تعزيزه منها :

-تدريب وتأهيل العاملين في قطاع التربية والتعليم الديني من أجل تدريبهم على الاستعداد الأمثل لمواجهة ظواهر التطرف والإرهاب والعنف بكل أنواعه والتي من شانها تهديد امن المجتمع واستقراره .

-تجديد الخطاب الديني بما يتوافق مع تبني مفاهيم الوسطية والاعتدال من أجل تعزيز التعايش السلمي والتسامح الديني والفكري .

-ترشيد الفكر الديني من خلال رفع مستوى الخطباء والأئمة عبر برامج فكرية وندوات ومؤتمرات علمية من أجل مكافحة مداخل التطرف ومنع استخدام المنابر الدينية للترويج السياسي والشحن الطائفي .

-دعوة الباحثين والمفكرين إلى الاجتهاد في صياغة مصوغات فكرية وآليات عملية تواكب التطور التكنولوجي والتربوي والبيداغوجي من أجل حصر خطر التطرف وعدم السماح له بالتوسع من خلال ترسيخ مفاهيم التمكين وغيرها لصيانة عقول الشباب باعتبارها الفئة الفاعلة لبناء المجتمع وهي الفئة الأكثر استهدافا من اجل بث سموم الانحلال الخلقي والفكري من أجل إضعاف البنى التحتية لأي أمة .

-مراقبة العمل الإعلامي الذي له الدور الكبير في تشجيع الإرهاب والعنف والتطرف من خلال تمييع الحقيقة والسعي نحو تغليط الرأي العام على درجة الخطر الذي يحاك بالمجتمع بسبب الفتن وزرع بذور الشك والتخويف من المستقبل الذي نجهل معالمه لافتقادنا للرؤيا الموسعة التي من المفروض تحصن فكرنا ضد أي محاولة للجر إلى المهالك .

وفي الختام يمكن القول أنه بقدر ضمان التحصين الفكري بقدر ضمان الاستقرار والأمان الاجتماعي والديني والاقتصادي والسياسي .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين