فقه السيرة (62) فقه الموازنات في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنائم

لدي وقفتان تتعلقان بفقه الموازنات في هذا الموضوع :

الوقفة الأولى: تتمثل بتقديم مصلحة إسلام بعض قادة المشركين، أو تثبيت إسلام حديثي العهد منهم على مصلحة الحفاظ على المال، فيبذل المال بسخاءٍ لما يحققه من مكاسب للإسلام من دخول قادة الكفر في الإسلام، ويدخل بدخولهم شعوبٌ كثيرةٌ تحت إمرتهم، أو يتثبت بتثبت إيمانهم إيمان أتباعهم، وما المال إلا متاع الدنيا الفانية لذلك قال النبي عن ذلك: ( يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم)، وقال: ( فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم)، فبين أن هذا العطاء ما هو إلا وسيلةٌ لإسلام هؤلاء ولتأليف قلوبهم على الإسلام لأنهم حديثو عهدٍ بكفرٍ.

وهذا الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مشروعٌ لأي إمامٍ مسلمٍ من بعده إذا رأى في التأليف مصلحةً للمسلمين والإسلام وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية : (الإمام نائبٌ عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعين ذلك – أي التأليف – للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رؤوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعين عليه، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين).

كما أن المؤلفة قلوبهم ليسوا قسماً واحداً بل هم أقسامٌ عدةٌ وفي إعطاء كل قسمٍ منهم مصلحةٌ تفوق مصلحة المال وهم: 

1. قسمٌ منهم يعطى رجاء إسلامه أو إسلام قومه وعشيرته كصفوان بن أمية الذي وهب النبي -صلى الله عليه وسلم- له الأمان يوم فتح مكة. وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره بطلبه، وقد أعطاه النبي – صلى الله عليه وسلم – إبلاً كثيرة محملة كانت في واد، فقال: والله لقد أعطاني النبي – صلى الله عليه وسلم – وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ.

2. ومن هذا القسم ما رواه أنس رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – غنماً بين جبلين فأعطاه إياه، فأتي قومه فقال: أي قوم أسلموا، فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً ما يخاف الفقر.

3. و قسمٌ منهم يخشى شره ويرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه، كما جاء عن ابن عباس أن قومًا كانوا يأتون النبي – صلى الله عليه وسلم – فإن أعطاهم من الصدقات مدحوا الإسلام وقالوا: هذا دينٌ حسنٌ، وإن منعهم ذموا وعابوا.

4. ومنهم من دخل حديثًا في الإسلام، فيعطى إعانة له على الثبات على الإسلام.

وذلك أن الداخل حديثًا في الإسلام قد هجر دينه القديم، وضحى بما له عند أبويه وأسرته، وكثيرًا ما يحارب من عشيرته، ويهدد في رزقه، ولا شك أن هذا الذي باع نفسه وترك دنياه لله تعالى جديرٌ بالتشجيع والتثبيت والمعونة.

5. ومنهم قومٌ من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم.

6. ومنهم زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم تثبيتهم، وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.

7. ومنهم قومٌ من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.

8. ومنهم قومٌ من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم إلا أن يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين، وأرجح المصلحتين، وهذا سبب جزئيٌ قاصرٌ، فمثله ما يشبهه من المصالح العامة.

مما سبق بيانه نرى أن المصالح التي تجبى من التأليف كثيرةُ تتمثل في استمالة القلوب إلى الإسلام أو تثبيتها عليه، أو تقوية الضعفاء فيه، أو كسب أنصارٍ جدد له، أو كف شر الأعداء عن دعوته ودولته.

الوقفة الثانية: تتجلى في إرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام للأنصار – الذين حزن فريقٌ منهم لإيثار الرسول المؤلفة قلوبهم بالمال العظيم دونهم – إلى حسن الموازنة بين الأمور، فالعطاء هذا ماهو إلا لتثبيت المؤلفة قلوبهم على الدين، أما الأنصار فلا يحتاجونه لأن إيمانهم كالجبال لا يحتاج إلى عرض الدنيا الفاني ليثبته، ثم ما قيمة هذا المال الفاني أمام ما سيكسبه الأنصار، فهم كسبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي سيرقيهم علمياً وإيمانياً، وسيبني فيهم الإنسان الذي يريد الله استخلافه في الأرض ليعمرها بالخيرات، وبالتالي لا مقارنة بين الثرى والثريا، بين جوار رسول الله والدنيا كلها، فلحظة ٌمن اللحظات الإيمانية تقضيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ عليك القرآن ويبين لك معانيه ويرقيك في معارجه، لا توازيها جبال الدنيا ذهباً، فأعظم بهذا المكسب ما أثمنه، ولقد زاد الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار فوق ذلك دعاءً مباركاً لهم ولذراريهم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فهنيئاً لمعشر الأنصار، وحشرنا الله تحت لوائهم يوم القيامة.

الصبر على جفاء الأعراب

لقد ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الصبر على جفاء الأعراب ، وطمعهم في الأموال، وحرصهم على المكاسب، فكان مثالا للمربي الذي يدرك أحوالهم ، وما جبلتهم عليه بيئتهم وطبيعة حياتهم من القساوة والفظاظة والروح الفردية، فكان يبين لهم ويطمئنهم على مصالحهم ويعاملهم على قدر عقولهم، فكان بهم رحيمًا ولهم مربيًا ومصلحًا، فلم يسلك معهم مسلك ملوك عصره مع رعاياهم الذين كانوا ينحنون أمامهم أو يسجدون, وكانوا دونهم محجوبين، وإذا خاطبوهم التزموا بعبارات التعظيم والإجلال ، كما يفعل العبد مع ربه، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فكان كأحدهم؛ يخاطبونه ويعاتبونه، ولا يحتجب عنهم قط، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يراعون التأدب بحضرته ويخاطبونه بصوت خفيض، ويكنون له في أنفسهم المحبة العظيمة، وأما جفاة الأعراب فقد عنفهم القرآن على سوء أدبهم وجفائهم، وارتفاع أصواتهم وجرأتهم في طبيعة مخاطبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذه مواقف تدل على حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعراب: 

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فلما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيته فأخبرته بما قال ، قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف ، ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!» قال: ثم قال: «يرحم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» قال: قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا. 

تعامله مع هوازن لما أسلمت .

جاء وفد هوازن لرسول الله بالجعرانة وقد أسلموا ، فقالوا: يا رسول الله ، إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك ، فامنن علينا منَّ الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله ، إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ، ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما ، وأنت رسول الله خير المكفولين .

فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم ، فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديما وحديثًا وخصوصًا وعمومًا. 

فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوفد قال لهم: «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا، فقال رسول الله: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين ،وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم : وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس ابن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيء نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم»، وفي رواية... فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين فقال: «إن إخوانكم هؤلاء جاؤونا تائبين، وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا وقد سر الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف النصري، فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف ، فوعدهم برد أهله وأمواله عليه، وإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلمًا، فجاء مالك مسلمًا فأكرمه وأمّره على قومه وبعض القبائل المجاورة. لقد كانت سياسته صلى الله عليه وسلم مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود؛ وبهذه السياسة الحكيمة استطاع صلى الله عليه وسلم أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيفًا في الطائف حتى ضيق عليهم، وقد فكر زعماء ثقيف في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان فلا تستطيع تحركًا ولا تجارة، فمال بعض زعماء ثقيف إلى الإسلام مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوبًا عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذن في أعلى منزله فرماه بعضهم بسهام فأصابوه ، فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف. 

إن الإنسان ليعجب من فقه النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النفوس ومن سعيه الحثيث لتمكين دين الله تعالى، لقد استطاع صلى الله عليه وسلم أن يزيل معالم الوثنية، وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها، ورتب صلى الله عليه وسلم الأمور التنظيمية للأراضي التي أضيفت للدولة الإسلامية، فعين عتاب بن أسيد أميرا على مكة، وجعل معاذ بن جبل مرشدًا وموجهًا ومعلمًا ومربيًا وعين على هوازن مالك بن عوف قائدًا ومجاهدًا ، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة صلى الله عليه وسلم. 

نتائج غزوة حنين والطائف

1- انتصار المسلمين على قبيلتي هوازن وثقيف في هذه الغزوة. 

2- كانت غزوة حنين والطائف آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي العرب. 

3- رجوع كثير من أهل مكة والأعراب بغنائم إلى مواطنهم تأليفا لهم لدخول الإسلام، وحصول الأنصار على وسام عظيم وهو شهادة رسول الله لهم بالإيمان والدعاء لهم ولأبنائهم وأحفادهم، ورجوعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. 

4- انضمام كوكبة مباركة من قيادة أهل مكة وهوازن إلى الإسلام وأصبحوا حربًا ضروسًا على الأوثان والأصنام والمعابد الجاهلية في الجزيرة العربية، كما كان لقبيلة هوازن، دور كبير في مجاهدات أهل الطائف والتضييق عليهم حتى أسلموا. 

5- توسعت الدولة الإسلامية وامتد نفوذها وأصبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء بمكة وعلى قبيلة هوازن، وصارت تلك الأماكن جزءًا من الدولة الإسلامية التي عاصمتها المدينة النبوية، وأصبح بالإمكان أن يرسل رسول الله بعوثا دعوية بدون خوف أو وجل من أحد، وصارت المدينة بعد الفتح تستقبل وفود المستجيبين، وأخذت حركة السرايا تستهدف الأوثان والأصنام لتهديمها، فقد أصبح استئصال وجودها من الجزيرة سهلا، ونظم رسول الله فريضة الزكاة فكلف من يقوم على جمعها من القبائل التابعة للدولة. 

ترتيب استيفاء الصدقات . 

شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة -في أواخر ذي القعدة- في تنظيم الإدارة والجباية، وكان صلى الله عليه وسلم قد استخلف عتاب بن أسيد على مكة حين انتهى من أداء العمرة ، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس ويعلمهم القرآن، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم عندما تدخل القبائل في الإسلام أن يحرص على تعليمها وتربيتها ويعين من يشرف على ذلك؛ لأن النفوس تحتاج إلى العناية والاهتمام وغرس العقائد الصحيحة والتصورات السليمة فيها، وفي مطلع المحرم من العام التاسع وجه الرسول صلى الله عليه وسلم عماله إلى المناطق المختلفة، فبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار ، وعباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة، ورافع بن مكيث إلى جهينة، وعمرو بن العاص إلى فزارة، والضحاك بن شعبان الكلابي إلى بني كلاب، وبسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب، وابن اللُّتْبيَّة الأزدي إلى بني ذبيان، ورجلا من بني سعد بن هذيم إلى بني هذيم ، والمهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم إلى بني سعد ، والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعلي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم. 

وكان صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف ، كما فعل مع عامله ابن اللُّتبيَّة بن الأزد حيث حاسبه عندما قال الرجل: هذا لكم، وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: «اللهم هل بلغت» مرتين وكان يقول أيضا: «أيما عامل استعملناه وفرضنا له رزقًا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول». 

إسلام عدي بن حاتم . 

عندما وقعت أخت عدي بن حاتم في أسر المسلمين عاملها رسول الله معاملة كريمة وبقيت معززة مكرمة، ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها ما تتبلغ به في سفرها ، وعندما وصلت إلى أخيها في الشام شجعته على الذهاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأثر بنصيحتها وقدم على المدينة ، ونترك أبا عبيدة بن حذيفة يحدثنا عن قصة إسلام عدي: 

قال عدي : لما بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم فررت منه حتى كنت في أقصى أرض المسلمين مما يلي الروم.

قال: فكرهت مكاني الذي أنا فيه حتى كنت أشد كراهية له مني من حيث جئت، قال: قلت: لآتين هذا الرجل ، فوالله إن كان صادقًا فلأسمعن منه، وإن كان كاذباً ما هو بضائري.

قال: فأتيته واستشرفني الناس وقالوا: عدي ابن حاتم، عدي بن حاتم، قال: أظنه قال ثلاث مرار، قال: فقال لي: يا عدي بن حاتم ، أسلم تسلم، قال: قلت: إني من أهل دين، قال: يا عدي بن حاتم ، أسلم تسلم، قال: قلت: إني من أهل دين، قالها ثلاثا ، قال: «أنا أعلم بدينك منك»، قال: قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: «نعم» قال: «أليس ترأس قومك؟» قال: قلت: بلى، قال: فذكر محمد الركوسية ، قال كلمة التمسها يقيمها فتركها قال: فإنه لا يحل في دينك المرباع. 

قال: فلما قالها، تواضعت لها. قال: «وإني قد أرى أن مما يمنعك خصاصة تراها ممن حولي، وأن الناس علينا إلبًا واحدًا، هل تعرف مكان الحيرة؟» قال: قلت: قد سمعت بها ولم آتها، قال: «لتوشكن الظعينة أن تخرج منها بغير جوار حتى تطوف بالكعبة، ولتوشكن كنوز كسرى بن هرمز تفتح» قال: قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «كسرى بن هرمز -ثلاث مرات- وليوشكن أن يبتغي من يقبل ماله منه صدقة فلا يجد» ، قال: فلقد رأيت اثنتين، قد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة ، وكنت في الخيل التي أغارت على المدائن، وايم الله لتكونن الثالثة؛ إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه ، وفي رواية جاء فيه.. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك ، قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا فقذفها إليَّ، فقال: «اجلس على هذه» ، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: «بل أنت» فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. 

وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها:

- كان عدي وهو مقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل في تصوره أنه أحد رجلين: إما نبي، وإما ملك، فلما رأى وقوف رسول الله مع المرأة الضعيفة الكبيرة مدة طويلة شعر بخلق التواضع وانسلخ من ذهنه عامل الملك، واستقر في تصوره عامل النبوة. 

- كان النبي صلى الله عليه وسلم موفقا حينما انتقد عديا في مخالفته للدين الذي يعتنقه، حيث حصل لعدي اليقين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعلم من دينه ما لا يعلمه الناس من حوله. 

- لما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عديا قد أيقن بنبوته تحدث عن العوائق التي تحول بين بعض الناس واتباع الحق ، حتى مع معرفتهم بأنه حق، ومنها ضعف المسلمين وعدم اتساع دولتهم، وما هم فيه من الفقر ، فأبان له النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمن سيشمل البلاد حتى تخرج المرأة من العراق إلى مكة من غير أن تحتاج إلى حماية أحد، وأن دولة الفرس ستقع تحت سلطان المسلمين، وأن المال سيفيض حتى لا يقبله أحد، فلما زالت عن عدي هذه المعوقات أسلم. 

- كان النبي صلى الله عليه وسلم موفقا في دعوته حيث كان خبيرا بأدواء النفوس ودوائها، ومواطن الضعف فيها، وأزمة قيادها، فكان يلائم كل إنسان بما يلائم علمه وفكره وما ينسجم مع مشاعره وأحاسيسه؛ ولذلك أثر في زعماء القبائل ودخل الناس في دين الله أفواجا. 

- وجد عدي سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته صلى الله عليه وسلم وحياته، ووجد هذه السمات أيضا في لون حديثه وكلامه ، ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزمن والتاريخ، فكان ذلك سببًا في إسلامه، وزيادة يقينه وانخلاعه عن زخارف الحياة الدنيا ومظاهر الأبهة والترف التي كان قد أسبغها عليه قومه. 

أحداث اجتماعية متفرقة في سنة ثمان .

وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي من الأزد، وأخذت الجزية من مجوس بلدها ومن حولها من الأعراب، وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله من مارية القبطية فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدا ذكرا.

وفي عام 8هـ توفيت السيدة زينب بنت رسول الله وزوج أبي العاص بن الربيع، ولدت قبل المبعث بعشر سنين، وكانت أكبر بناته صلى الله عليه وسلم تليها رقية ثم أم كلثوم، ثم فاطمة رضي الله عنهن، كان رسول الله محبا لها، أسلمت قديما ثم هاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين، وكانت قد أجهضت في هجرتها ثم نزفت وصار المرض يعاودها حتى توفيت ، ولما ماتت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغسلنها وترًا: ثلاثـًا، أو خمسًا، واجعلن في الآخر كافورًا».

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين