مسُّ الجن

قالوا: وهل يمكن أحدًا من البشر أن يحتك بالجن احتكاكا يحادثهم ويتواصل معهم؟

قلت: لايمكن ذلك إلا للأنبياء عليهم السلام، روى البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع، قال: سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيا"، وقد يتشكَّل الجن بأشكال مختلفة، قال ابن تيمية: فيتصوَّرون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، (مجموع الفتاوى 19/44-45)، وإذا تشكَّلوا بهذه الصور رآهم بنو آدم غير متأكدين من كونهم جنا، وغير متواصلين معهم. قال القرطبي:"قال النحاس: مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أنَّ الجن لا يرون إلا في وقت نبيّ، ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقاً لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم، وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم". 

وقال ابن حزم في الملل والنحل 5/113: "وإذ أخبرنا الله عز وجل أنا لا نراهم، فمن ادَّعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون نبياً من الأنبياء عليهم السلام، فذلك معجزة لهم".

قالوا: وهل يمس الجنُّ البشر؟

قلت: المس له معنيان.

قالوا: اكشف لنا عن المعنيين في تفصيل.

قلت: المعنى الأول هو الوسوسة والنخس، وهم يمسون البشر في هذا المعنى، قال ابن حزم في الملل والنحل 5/111: "وصحَّ النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس، وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. فوجب التصديق بكل ذلك حقيقة. وعلمنا أن الله عز وجل جعل لهم قوة يتوصلون بها إلى قذف ما يوسوسون به في النفوس... ونحن نشاهد الإنسان يرى من له عنده ثار، فيضطرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته. ويرى من يحب، فيثور له حال أخرى ويبتهج وينبسط. ويرى من يخاف، فتحدث له حال أخرى من صفرة ورعشة وضعف نفس. ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحل بها طبائعه، فيغضبه مرة ويخجله أخرى ويفزعه ثالثة ويرضيه رابعة. وكذلك يحيله أيضا بالكلام إلى جميع هذه الأحوال. فعلمنا أن الله عز وجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونها إليه. نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار الناس. وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم".

والثاني: الصرع ودخول الجنِّي في الإنسي وتصرفه في أقواله وأفعاله، فهذا لا دليل عليه، قال ابن حزم في الملل والنحل 5/111: "وأما الصرع فإن الله عز وجل: قال (الذي يتخبطه الشيطان من المس). فذكر عز وجل تأثير الشيطان في المصروع، إنما هو بالمماسَّة. فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئاً، ومن زاد على هذا شيئاً، فقد قال ما لا علم له به، وهذا حرام لا يحل. قال عز وجل: (ولا تقف ما ليس لك به علم). وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه صلى الله عليه وسلم. ولا خبر عنه –عليه السلام– بغير ما ذكرنا. وبالله تعالى التوفيق. فصحَّ أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه، كما جاء في القرآن، يثير به طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ، كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم. فيُحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده. وهذا هو نص القرآن، وما توجبه المشاهدة. وما زاد على هذا، فخرافات من توليد العزامين والكذابين، وبالله تعالى نتأيد".

قالوا: ما دليلك على ما ذهبت إليه؟

قلت: قال تعالى: "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم". (سورة إبراهيم الآية 22)، فليس من الشيطان إلا الوسوسة والتزيين والدعوة إلى الشر، ولو كان له أكثر من ذلك لبطل التكليف، ولقذف الزناة والقتلة والسراق وسائر الآثمين غيرهم بجرائمهم.

قالوا: وهل معك أحد من العلماء في قولك هذا؟ 

قلت: قال الطحاوي في شرح معاني الآثار: "الناس إنما أمروا بالاستعاذة من الشيطان، فيما جعل له سلطان عليهم، وهي الوسوسة، لتحبيب الشر وتكريه الخير وإنساء ما يذكرون وتذكير ما ينسون، وأما إعثار دوابهم وإهلاك أموالهم، فلا سبب له فيها".

وقال ابن حيان في تفسير قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)، و(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): "والضر هو المرض، وله أسبابٌ طبيعيَّة ظاهرة في البدن. فنسب ما به من المرض –المستند إلى أسبابه الطبيعية– إلى الشيطان".

وقال الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب": "الشيطان لا قدرة له البتّة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، والدليل عليه وجوه: الأول: أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان، ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان، وحينئذٍ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم، هو الله تعالى. الثاني: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل أولادكم. الثالث: أنه تعالى حكى عن الشيطان أنه قال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة"، وسبق قول ابن حزم، وقال أيضًا في رسائله 3/228: "أما كلام الشيطان على لسان المصروع، فهذا من مخاريق العزامين، ولا يجوز إلا في عقول ضعفاء العجائز، و نحن نسمع المصروع يحرك لسانه بالكلام، فكيف صار لسانه لسان الشيطان؟ إن هذا لتخليط ما شئت. و إنما يلقي الشيطان في النفس يوسوس فيها، كما قال تعالى: (يُوَسْوِسُ في صدور الناس)، وكما قال تعالى: (إلا إذا تَمَنَّى ألقى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ). فهذا هو فعل الشيطان فقط. وأما أن يتكلم على لسان أحد، فحِمقٌ عتيقٌ وجُنونٌ ظاهرٌ، فنعود بالله من الخذلان و التصديق بالخرافات".

قالوا: وهل ترى الشياطين يتخبطون فئة من فئات البشر؟

قلت: نعم، هم أولئك الذين لا يرحمون الضعفاء المساكين، ولا يواسونهم، بل يمكرون بهم ويخدعونهم ويبتزون أموالهم ويمتصون دماءهم ويستغلونهم أسوأ استغلال، ومنهم متعاطو الربا، قال تعالى: "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المس". وعلى رأس الذين يتخبطهم الشياطين من المس الراقون الذين يقطعون الطريق وينهبون الأموال ويهتكون الحرمات ويأتون المنكر في كل ناد وواد، ويتحيلون على كل معتكف وباد.

قالوا: ألم ترد دعوات واستعاذات في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ 

قلت: بلى فادعوا بها وتعوذوا بها، وقال ربكم: "أجيب دعوة الداع إذا دعان"، وقال: "ادعوني أستجب لكم"، وهل تفتقرون إلى أن تتوسلوا بالفسقة الفجرة إلى مولاكم، وما أضل قوما جعلوا بينهم وبين ربهم وسائط ممن لا يرحمهم من السحرة المشعوذين والسرَّاق الزانين.

قالوا: فما توصينا؟

قلت: أنيبوا إلى ربكم وتوكلوا عليه، وإذا فجعكم مرض، فعليكم بالرجوع إلى الأطباء المخلصين الحاذقين، وإيَّاكم إيَّاكم أن يقتنصكم أصحاب الرقى والتمائم بشبكاتهم فتزدادوا مرضا وتخبل عقولكم وتفسد أموركم وتختل نظمكم، ولا يغرنَّكم بالله الغرور، ولا يغلبنكم هؤلاء المجرمون، وتعوذوا بالله، وأقيموا الصلاة، واقرأوا القرآن، وادعوا ربكم يستجب لكم، إنه سميع قريب مجيب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين