فشَربَ حتى رضيتُ

هذا تعقيب على منشور وقفتُ عليه من جديد، عبر وسائل التواصل قبل أيام.

وكنت قد رأيته أول مرة قبل نحو سنتين، واستوقفتني فيه عبارة لا أصل لها من حيث الرواية، وإن كان معناها صحيحا لا غبار عليه.

وأقول بداية: لست بصدد التعقيب على ما في المنشور من أخطاء إملائية أو نحوية لا تخفى، ولا على ما فيه من ضعف في الأسلوب، ومن رواية الأحاديث بالمعنى بلغة أقرب إلى العامية، وكأن الكلام مُفَرّغ من تسجيل درس مرتجل لأحد الدعاة.

وإنما أُعَقِّبُ على العبارة المنسوبة إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وجاء التأكيد الواثق على تلك النسبة، مع أنها نسبة لا تصح.

فقد جاء في المنشور:

(يقول أبو بكر: فشرب النبي صل الله عليه وسلم حتى ارتويت !!

لا تكذّب عينيك !! فالكلمة صحيحة ومقصودة، فهكذا قالها أبو بكر الصديق..)

وتعقيبا على هذه العبارة أقول:

محبَّة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، للنبي صلى الله عليه وسلم، كانت مضرب المثل، ومثار العجب ممن حُرِم ذلك الحب، كالذي روته كتب السير من مقالة أبي سفيان، صخر بن حرب - وكان على دين قومه - حين قتلتْ قريشٌ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن الدثِنَة، رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُك اللّهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِك نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنّك فِي أَهْلِك؟

قَالَ: وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ، وَأَنّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي.

فقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْت مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبّ أَحَدًا كَحُبّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا.

وكالذي كان من مقالة عروة بن مسعود الثقفي يوم الحديبية، إذ يقول - وهو ما يزال على دين قومه -: ...والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إنْ رأيتُ مَلِكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا... الحديث. وهو في صحيح البخاري.

وفي ذلك الصحيح ما يغْني عما يتساهل فيه بعض الواعظين والخطباء والكُتّاب، من تداول مثل هذه العبارة المنسوبة زورا إلى الصديق رضي الله عنه. وهي عبارة: (فشرب حتى ارتويت).

ولسنا ننكر من معنى العبارة شيئا.

إنَّ معناها لجميل جليل، وإنَّ الصدِّيق به لجدير، وجدير بما هو أبلغ منه، ولكن العبارة لا وجود لها في شيء من دواوين السنة ولا السيرة ولا شيء من المصادر المعتبرة.

ومع أنها موجودة في كُتب معاصرة، لدعاة وطلبة علم معاصرين، كالشيخ راتب النابلسي، والشيخ علي نايف الشحود، والشيخ عبد الرحمن السحيم، والشيخ محمد حسين يعقوب، والمدعو عمرو خالد، وغيرهم – ويبدو لي أن بعضهم نقلها عن بعض، ولا أدري مَن أول مَن أشاعها منهم، فإن تكرر عند غير واحد منهم العبارة التي تقول: *لا تكذّب عينيك !! فالكلمة صحيحة ومقصودة، فهكذا قالها أبو بكر الصديق* .. -

وأقول: والعبارة غير صحيحة، ولا مقصودة، ولا هكذا قالها سيدنا الصديق رضي الله عنه.

وإنما هي عبارة مختلقة، منسوبة إلى الصديق رضي الله عنه، ولا توثيق لها البتة، ممَّا يجعلني أجزم بأن سيدنا الصديق لم يقلها.

وإنما قال الصديق رضي الله عنه في الواقعة المذكورة: .... *فشربَ حتى رضيتُ*

هكذا جاءت روايتها في الصحيحين، وفي جميع المراجع المعتبَرة التي ذَكرت الواقعة، مِن كُتب الحديث والتفسير والسِّيَر والتاريخ والتراجم والرقائق وغيرها.

وهي عبارة ليست ببعيدة من حيث معناها ودلالتُها عمّا دلّتْ العبارة المُدّعاة: *فشرب حتى ارتويت*.

ولكن الذي ننكره أنها لا وجود لها، ولم تُرو عن الصديق بسند صحيح ولا ضعيف، والأنكر من ذلك هذا الإيهام بصحتها، وكأن كاتب المنشور قد سمعها من الصدِّيق بأذنيه، أو عمن سمعها منه بأذنيه، حين يقول: ( *لا تكذّب عينيك !! فالكلمة صحيحة ومقصودة، فهكذا قالها أبو بكر الصديق* .. )

ولقد أَحصيتُ في بعض نسخ الشاملة أكثر من مائتي موضع وردت فيها: *فشرب حتى رَضيْتُ*.

وليس في شيء من المصادر في كل ما وقفتُ عليه: *فشرب حتى ارتويت*.

وعليه فإني أجزم بأن عبارة (فشرب حتى ارتويت) لا تصح نسبتها إلى الصديق رضي الله عنه، ومَن نَسبها إليه فليَعـزُها إلى مصدرها المعتبر إن وجده.

فينبغي على طلبة العلم والدعاة إلى سبيل الله، أن يَعرضوا أنفسهم أبدا على المنهج العلمي المُحكَم الذي يقول: (إن كنتَ ناقلا فالصحة، أو مُدّعيا فالدليل).

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين