نصيحتنا لآبائنا وزعمائنا

المحاور

يدرك المسلم قيمة الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبلاغ المبين؛ فهي تكليف وتشريف أو فرض وفضل، كيف لا؟ وفي فرضيتها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" رواه البخاري .. وفي أفضليتها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن يهدي الله لك رجلاً واحداً خير لك من حمْر النعم" متفق عليه.

‏اختصر النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله بكلمة واحدة حين قال: "الدين النصيحة" وهنا سأل الصحابة عن الناصح والمنصوح بقولهم: لمن؟ فأجابهم عليه الصلاة والسلام: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم.

‏تزداد قيمة الدعوة بازدياد قيمة ومكانة المدعو وتأثيره، فالآباء وأولياء الأمور والمسؤولون لهم تأثيرهم ودورهم بما يملكون من سلطة وقرار، لأجل ذلك كان من الواجب الاهتمام بدعوتهم على الرغم مما فيها من مشقة بالغة، ولك أن تنظر في أثر إسلام أبي سفيان رضي الله عنه في التمهيد لفتح مكة، بل وأثر إسلام جرير بن عبد الله والطفيل الدوسي وسعد بن معاذ وغيرهم في إسلام أقوامهم، دون التقصير في واجب الاهتمام بالضعفاء والبسطاء لأن ذلك قد يعرضنا لعتاب شبيه بعتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى".

يجد المسلم اليوم صعوبة بالغة حين يريد إسداء النصح لولد من أولاده أو لعامل عنده، ويزداد الأمر صعوبة إذا أراد نصح زميله وصديقه وأخوه وأخته وزوجته وجاره .. وتزداد مهمته صعوبة وتعقيداً إذا أراد أن ينصح من هم أكبر منه عمراً أو قدراً أو من هم فوقه كأصوله (والده ووالدته أو جده وجدته) أو شيخه وأستاذه أو مديره ورئيسه وزعيمه وملكه، ضمن دائرة "أئمة المسلمين وعامتهم".

‏تكمن صعوبة النصيحة لمن هم فوقنا في العمر أو القدر في كونها غير متوقعة، إذ تعوّد الناس على استقبال النصائح والتوجيهات بل والأوامر ممن هم فوقهم .. أما أن يصدر النصح عن الصغير للكبير وعن الموظف للمسؤول وعن العاميِّ أو الطالب للعالِم والأستاذ؛ فهذا أمر ثقيل لعدم توقعه بل ولتوقع رفضه من قبل المنصوح .. وقد يؤدي ذلك إلى إيذاء الناصح وإحراجه أحياناً، لأجل ذلك نبرر لأنفسنا التوقف عن نصح من هم فوقنا، بل ونغمض أعيننا، وقد ننسب لهؤلاء العصمة ونبرر أخطاءهم ومعاصيهم وفجورهم بل وكفرهم أحياناً!!

في القرآن والسيرة نماذج مشرقة في نصيحة الولد لوالده، أو نصيحة المسؤول، ومن تلك النماذج:

- دعوة نوح عليه السلام لأبويه: لم يذكر القرآن شيئاً من التفصيل حول ذلك، بقدر ما فصّل في دعوته لابنه، ولكنه ذكر نتيجة دعوته لأبويه وأنهما اهتديا واستجابا لنداءات الإيمان لأجل ذلك دعا لهما قائلاً: "ربِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا" (إبراهيم: 28).

- دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه: حيث عرض لنا القرآن الأسلوب الرقيق المشفق لدعوة ابراهيم عليه السلام لأبيه ومحاولة إقناعه واستقطابه للتوحيد وتبغيضه بالأصنام، ومجادلته وحواره بالحسنى، قال تعالى:" إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا" (مريم: 47).

- نصيحة يوسف عليه السلام لعزيز مصر: وقد جاءت نصيحته له بطريق تقديم النموذج الرائع في التعفف عن الحرام، وفي حفظ المال العام، فتأثر الملك بيوسف عليه السلام وقال:" ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف: 55).

- نصيحة موسى عليه السلام لفرعون: وقد سلك معه أسلوباً رقيقاً حسناً ليناً وأظهر له معجزات ربه، وحاوره وناوره، ثم تحداه ورد عليه رداً يليق بوجهه السمج، قال تعالى:" وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا" (الإسراء: 103).

- دعوة أبي هريرة رضي الله لأمه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ» فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا" أخرجه مسلم.

- دعوة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما لأمها: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: " نعم، صِلي أمك "رواه البخاري، وما لبثت أمها أن أسلمت لما رأت من حسن سلوك زوجها وبناتها.

- دعوة أبو بكر رضي الله عنه لأبيه: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة (فاتحاً) ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ " قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره ثم قال: " أسلم " فأسلم" رواه ابن حبان وهو صحيح.

لقد أكرم الله تعالى عدداً من الصحابة بإسلام آبائهم وأمهاتهم، في حين مات آباء وأمهات آخرين على الكفر، وممن أسلم من هؤلاء الكرام؛ أم عثمان وأم طلحة وأم عمار وأبوه وغيرهم، ومن الذين ماتوا على الكفر؛ الوليد بن المغيرة والد خالد رضي الله عنه، وأبو جهل والد عكرمة رضي الله عنه، وعتبة بن ربيعة والد أبو حذيفة وهند رضي الله عنهما.

لقد وجد كثير من الصحابة الأذى من أقرب الناس إليهم، فعن سعد بن أبي وقاص قال: حلفتْ أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابنٌ لها يقال له " عمارة " فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك على أن تشرك بي .. وفيها: وصاحبهما في الدنيا معروفاً" رواه مسلم، فكيف والحال كذلك يرجو الابن التأثير بأبيه وإصلاحه؟! .. ومثل ذلك جرى مع مصعب بن عمير رضي ذاك الفتى المنعَّم المدلل وقد واجه عاصفة من أمه (خناس العامرية) التي رفضت إسلامه وعذبته، ورفضت دعوته لها وأنكرته ثم هجرته .. ولم تسلم إلا قبيل صلح الحديبية كما قيل، أي بعد ثلاث سنوات من استشهاد ابنها في غزوة أحد.

لقد كان كبراء القوم من الزعماء والمسؤولين (ولا يزالون) أسوأ الناس رداً على دعوة الأنبياء والدعاة لما يسول لهم شيطانهم بأن الأنبياء والدعاة أعداء يحملون أجندة شخصية وينافسونهم في مواقعهم، قال تعالى: "قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ ۖ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ" (الأعراف: 110)، على الرغم من الرسائل التطمينية الكثيرة من الدعاة بأنهم لا يطلبون مالاً ولا منصباً، لأجل ذلك تفهم النبي صلى الله عليه وسلم السلوك القبيح لعبد الله بن أبي بن سلول حين علم بأن أهل المدينة كانوا يريدون تنصيبه زعيماً عليهم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.

يمثل أعمام النبي صلى الله عليه وسلم الذين أدركوا البعثة النبوية نموذجاً واضحاً لاستجابات الأقارب أو الأباء والكبار لدعوة أبنائهم، فالعمُّ يأتي في مقام الأب، وقد توفي والدا النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ولا ندري ما حكمة الله تعالى في ذلك؛ فلربما حتى لا يشكل وجودهما عبئاً دعوياً ثقيلاً على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، أما أعمامه فكانت استجابتهم على النحو الآتي:

- ‏منهم من استجاب للدعوة وعاش لأجلها واستشهد في سبيلها، فرضي الله عن حمزة أسد الله ورسوله.

- ‏ومنهم من استجاب مبكراً وكتم، أو تأخر إسلامه حتى ما بعد بدر أو فتح مكة، فرضي الله عن العباس.

- ‏ومنهم من لم يستجب ولم يحارب، بل دافع وحمى النبي صلى الله عليه وسلم، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لوفاة عمه أبو طالب على الكفر على الرغم من حرصه على هدايته، فنزل في ذلك قوله تعالى: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القصص: 56).

- ‏ومنهم من لم يستجب وناصب ابن أخيه العداء، فتعجب وتألم لحاله النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)" (المسد).

‏لقد كان لكلمات جعفر رضي الله عنه الرقيقة والعميقة في مجلس النجاشي (الملك) أثر بالغ ليس في تأمين حماية أصحابه فحسب، بل وفي إسلام النجاشي رضي الله عنه لاحقاً فقد روى البخاري قال: "قال لهم النجاشي: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله ورُوحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .. فضرَب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابنُ مريم ما قلتَ هذا العُود، فتناخَرت بطارقتُه حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتُم واللهِ، اذهبُوا فأنتم آمنون بأرضي، مَن سبَّكم غَرِم، وما أحبُّ أن لي جبلاً من ذهب وأني آذيتُ رجلاً منكم".

بل إن في الأسلوب الجامع المانع الذي برز في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك في زمانه أثر كريم في تبليغ الرسالة وإقامة الحجة واستمالة قلوبهم للإيمان، فهذا هرقل يوشك أن يسلم لولا خوفه من الملأ حوله .. وكيف لا يتأثر وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم: "إلى هرقل ملك الروم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَّرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ (أي أتباعه ورعاياه الذين يتابعونه على الكفر) رواه البخاري .. فهل أبلغ من هذا الخطاب الذي جمع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين الاحترام (عظيم الروم) والمهابة (أسلم تسلم) والترغيب (يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَّرَّتَيْنِ) والترهيب (فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ).

لعل من أبرز وسائل وأساليب دعوة ونصيحة الأباء والكبار والمسؤولين ما يأتي:

١. خفض الجناح واللين والتواضع والاحترام بين أيديهم.

٢. استذكار فضلهم ومدحهم بما فيهم وشكرهم والثناء على ما يصدر عنهم من خير.

٣. التأثير غير المباشر بهم من خلال القدوة الحسنة، وإظهار محاسن وبركات الإلتزام على صاحبه.

٤. ترك استفزازهم، وعدم تحديهم أو التعالي عليهم.

٥. اكتشاف نقاط قوتهم وإيجابياتهم وكثرة تذكيرهم بها بين يدي التلميح بنقاط ضعفهم ونقصهم.

٦. حث أصحابهم وأقرانهم ومن هم في مستواهم من الطيبين على دعوتهم والتأثير بهم.

٧. الدعاء الصادق لهم بالهداية وعدم اليأس من رحمة الله تعالى لهم، إلا إذا تعدى شرهم وطغيانهم إلى الآخرين وصار العدوان ديدنهم، فالدعاء عليهم لا يقل أهمية عن الدعاء لهم، وقد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كبراء قريش فوقعوا كلهم صرعى وتم سحبهم إلى بئر بدر.

٨. استعارة بعض كلماتهم في التصديق على كلماتنا، كأن نقول لهم بأننا سمعنا منكم ذات يوم تقولون كذا أو رأيناكم تفعلون كذا في التدليل على نقاط التقاطع للوصول إلى القيمة المنوي تمكينها في نفوسهم.

٩. إهداؤهم والتحبب لهم.

١٠. مساعدتهم في إنجاز بعض مهامهم.

١١. تذكيرهم بنعمة المنعم ولطف اللطيف ورزق الرزاق لهم من خلال مواقف ومشاهد واقعية في حياتهم.

١٢. تخويفهم من السلب بعد العطاء ومن المنع بعد المنح.

١٣. تخويفهم ولكن بهدوء وبطريقة ذكية غير مباشرة من الموت ودنو الأجل، لاسيما عندما يموت بعض زملائهم وأقرانهم.

١٤. اصطحابهم إلى خطب الجمعة المؤثرة وإرشادهم إلى القنوات والصحف والمجلات والكتب ذات الرسالة الهادفة.

١٥. حسن الاصغاء لهم حتى لو أطالوا الحديث، وسؤالهم عن تاريخهم وماضيهم وجهدهم وانجازهم في الحياة.

١٦. تعريفهم بأصدقائنا الطيبين ليروا ما يسعد قلوبهم.

١٧. تذكيرهم بفضل الولد الصالح والوالد الطيب والمسؤول المهتدي في إنتاج مجتمع متماسك، فالولد الصالح يجلب الذكر الحسن لأبيه، والوالد الطيب يجلب الرزق المبارك لأولاده (وكان أبوهما صالحاً)، والمسؤول المهتدي يجلب الأمن لمجتمعه.

١٨. النزول عند رأيهم وطاعتهم (في المباحات) مما يختلف فيه الناس بحسب اختلاف وجهات نظرهم، وذلك بعد محاولة تبيين رأيك، لاسيما إن وجدت منهم إلحاحاً وإصراراً، وستجد من الله عوضاً ولو بعد حين، إلا إذا أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق (أباً كان أو مسؤولاً) في معصية الله، قال تعالى: "وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا .." (لقمان: ١٥).

١٩. لابد من معرفة أسباب صدود الآباء والزعماء، حتى يسهل معالجة انحرافهم، ولعل من أسوأ تلك الأسباب؛ الصحبة السيئة أو الحاشية القبيحة التي تزين القبح وتجعل المفسد مصلحاً والمصلح مفسداً حتى تورد أصحابها المهالك.

٢٠. ويبقى الأمر في دائرة اللطف والهدوء والمحاورة والمناورة واللين والمجادلة بالتي هي أحسن حتى يصدر العدوان من ذاك الأب أو التجاوز والاستبداد والبطش من ذاك الولي، وهنا نجد ما يدعو إلى الصبر حيناً أو رد الأذى في حين آخر، فقد وقف الصحابة لآبائهم في مواقف العز في بدر وأحد والأحزاب وغيرها (وإن لم يصح خبر قتل أبي عبيدة لأبيه يوم بدر) .. كما نجد أن إبراهيم عليه السلام وقف لأبيه وقفة مفاصلة سجلها القرآن، قال تعالى: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) .. ثم تحداهم قائلاً: "وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) .. إلى أن قال لهم: " أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ" (الأنبياء: 67).

وختاماً

ليس أسعد من قلب المسلم وهو يرى ثمرة جهده في والديه وقد أصلح الله شأنهما وهدى قلبهما، فتركا عادات محرمة أو منكرات صريحة، وهذا من بعض واجبه نحوهما، ولا يكون ذلك بسهولة بل لابد من الصبر والمصابرة والأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأرباب، فكيف إذا ترك التلميذ أثره الإيجابي في شيخه ومعلمه؟ وكيف إذا ترك المواطن أثره الطيب في مسؤوله ومديره وقائده وملكه؟ وهذه كلها تحتاج إلى شجاعة وثبات قلب ويقين صادق على الله بأن الأعمار والأرزاق بيده سبحانه وحده، حتى لو أدى ذلك إلى بطش المنصوح بالناصح، فقد روى ابن حبان بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطَّلبِ، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين