وأخيرًا رضي إبليس بالسجود لآدم

وأخيرًا رضي إبليس بأن يسجد لآدم، أعلن بذلك في خطابه الرئاسي الذي ألقاه أمام فئة عظيمة من مردة العفاريت والشياطين في مؤتمر سنوي عقد في فندق الغي والضلال، الواقع في جزيرة السفه والجهل، ببلد النحس والشؤم، من قارة العصيان والطغيان، بأرض البغي والفساد، ومما جاء في هذا الخطاب، لا بارك الله فيه:

ذريتي الأوغاد الزنام والأنكاد اللئام! هممتُ أن أسجد لآدم، ولم يتم كلامه حتى ثارت ضجة كبيرة وعلت صيحات شديدة خفت لها صوت الماكر اللعين، فقال: لعلكم تحيرتم من هذا الانقلاب في فكرتي مندهشين لها مشدوهين مذهولين، وقمن بكم أن تستغربوا، فاسمعوا مني عسى أن يزول عنكم هذا الاستغراب.

كنت أحسب آدم خلق من الطين، مجبولا على الخشوع والخضوع، والرقة واللين، والإخبات والإنابة، وإقبال على طاعة ربه وعبادة، وملازمة للصلاح والتقوى، والاستغفار والتوبة، شاطا عن الكفر والشرك، والمعاصي والذنوب والآثام، وتهيبت أن في ذريته نوحا وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وزكريا ومريم ويحيى وعيسى ومحمدا وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا وخديجة وعائشة وفاطمة، ومن سار على دربهم من الأبرار الأخيار الوارثين للفردوس وجنان الخلد، فاستكبرت حسدا، وتمردت وعصيت ربي وأبيت أن أسجد له، ونضّدت جنودي من أمثالكم لإغواء بني آدم والتنكب بهم عن الصراط المستقيم وكبهم في نار جهنم كبا.

وإذا بالإنسان قد انقلب رأسا على عقب، تولى العزَّ أوَّلُه، وصار آخرُه للذل والهوان، ترحلت عنه غضارة نعمته، وطيب سجيته، اكتسى التبختر والاستكبار، وصار وكأنه لهيب من النار، مجافيا لفطرته جفاء، وسبقني في التمويه والتدجيل، والتدسيس والتضليل، يتظاهر على رب العالمين بالعصيان والطغيان، ويؤلب بني جلدته بعضهم على بعض في دهاء ومراوغة، ومكيدة ومخاتلة.

قد أولع بالوقاحة والاستهتار، والخلاعة والمجون، والدعارة والفجور، رجس النفس، دنس الروح، غير حميد الخلق والدين، لا عهود له ولا ذمم، خالعا عن نفسه ثياب الحياء والحشمة، والطهارة والعفاف،غارقا في ارتكاب الفواحش والمناكير، ومنغمسا في اقتراف الخطايا والآثام، محبا للدناءة والخساسة حب الأوطان، ومؤثرا للضعة والنذالة إيثار الصالحين لحقوق الجيران.

يفرح بالأولى ويغفل عن الآخرة، راغبا في متاع دار الفناء الزائل، زاهدا في العقبى، متزلفا إلى نار جهنم، ومتجنبا للجنة، مبهوتا بغرور الدنيا، عالقا بجيفتها المعفنة، مستعصما بمقر الخزي والهوان، ومغرما بمسكن الفضائح والعار، ويستمتع باستعباد الفقراء والمساكين واستذلالهم، ضاحكا عليهم، وساخرا من ضعفهم، غير حافظ للإخاء، ولا راعيا للوفاء.

وصار علماء بني آدم فارغة قلوبهم من الخشية، قبيحة أفعالهم في السر والعلانية، ومتدنسة أحوالهم بالكبائر في السراء والضراء، متمادية نفوسهم في الفجور والباطل في الشدة والرخاء، متحاسدين متباغضين، ومتخاصمين متجادلين، يبيعون الدين بعرض من الدنيا، يرون عجائب في الناس، وهم ساكتون على ما يرون، صادقا عليهم قول ربهم "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".

وظهر فيهم قوم يسمون السياسيين، تعمقوا في المؤامرات واستغلال الشعوب والأمم، ووصلوا أرض المكر وصل كثيّر لأطلال عزة في لوى تيماء، مسهّلين من فتنهم وعر كل حزونة، ومالئين منها عرض كل فضاء، أحتقر نفسي دونهم، يسابقونني إلى كل شر وفساد، يظلمون الضعفة العجزة قبل أن أفكر في النيل منهم أو أخطط للإساءة إليهم.

وآخرون يسمون الصحفيين، لم أر أسمج منهم في الكذب والمين، ونشر الأباطيل والخرافات، وخطباء متكلمون، يقولون ما لا يفعلون، بيض الأقوال، سود الأفعال، عذبة ألسنتهم، بشعة بواطنهم، جعلوا النفاق ديدنهم، متهافتين في غمار الفحشاء، يستحثون غيرهم على الحسنات، وهم متسكعون في الظلمات، وحسبهم شرا إهمال أنفسهم، يزهدون الناس في المال، وهم عليه متكالبون، ويقبِّحون أفعالا هم لها آتون، ويزينون أخلاقا هم منها أصفار، يخونون الأنام، مرغبيهم في التوبة، وهم أنفسهم متهادنون متصادقون مع الذنوب.

لم يبق بر ولا بحر، ولا دار للعرب أو العجم، ولا حل ولا حرم، ولا مسجد ولا كنيسة، ولا سوق ولا خمارة إلا وقد أججها بنو آدم فتنا تحرق في نيرانها الأبرياء، وصمة عار على جبين الدهر، وكأن الشر بأنواعه مشتقة أسماؤه من أسمائهم، متلطخة أذيالهم بدموع المظلومين ودمائهم.

ضاقت علي الأرض بما رحبت، أرمق ابن آدم من كثب حسرة، وكأني أمامه لفظ بلا معنى، لا أعرف لي ملجأ ولا مأوى، مستقذرا نتن صنائع ذميمة، فأرى أن أهاجرها إلى كوكب آخر أحمي فيه نفسي وذريتي من قبائح البشر، أو أنزوي إلى كهف وغار، أو أختفي في عمق من أعماق البحار، أو أعترف بهزيمتي أمام آدم وأسجد له توبة من ذنبي وأقر له بالسيادة وأتصالح معه فيسمح لي بالبقاء في الأرض، قلت لربي لما أمرني بالسجود: أنا أخير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، وآن لي أن أعترف بفضل الإنسان، وأقول لربي: إنه خير مني، خلقتني من نار، وخلقته من طين هو أحر لهيبا مني وأشد لظى، ولقد كان قولي السابق نكرانا وزورا، فإلى كم ذا التخلف والتواني؟ وكم هذا التمادي في التمادي؟ أخلق بي أن أخر له ساجدا، وأحر بي أن أسلم له بالإمامة والريادة، لا آلوه تفخيما وتعظيما.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين