كيف نجح النّظام في تمزيق النّسيج الاجتماعي في سوريا؟!

في دولةٍ تزخر فيها الإثنيّات الدينيّة والعرقيّة يجدُ أيّ نظام مستبدّ فرصته لإحكام السيطرة من خلال تفريق هذه المكوّنات شِيَعًا؛ وهذا هو منهج الطّغاة من عهد فرعون الأوّل إلى فراعنة اليوم.

ولكنَّ النّظام السوريّ ابتداءً من عهد حافظ الأسد مارس طريقة مذهلةً في تمزيق المجتمع السّوريّ مستكملًا بذلك ما بدأه حزب البعث عقب انقلابه على السّلطة؛ فكان الأسد الأب والابن يحكمان مجتمعًا مزّقاه شرّ ممزّق لكنّهما حرصا على تغطيته بغلالةٍ رقيقةٍ من الاستقرار الموهوم التي زالت تمامًا عقب ثورة عام 2011م.

منهجيّة التّمزيق بالتّفريق

عمل النّظام في عهد حافظ الأسد على رفع السواتر النفسيّة بين مكوّنات المجتمع السّوري وتعميق الشّروخ بين القوميّات والإثنيّات العرقيّة من جهة وبين الإثنيّات الدينيّة والطّوائف من جهة أخرى.

ظلم النّظام جميع المكوّنات بلا استثناء، ثمّ رسّخ عند مكوّن أنّه هو المظلوم وسواه من المكوّنات صاحبة حظوة عند النّظام.

فعلى سبيل المثال؛ فرّق النّظام بين العرب والأكراد؛ بحيث استشعر الأكرادُ بأنّ العرب هم أصحاب الحظوة وسارقو حقوقهم في الوطن، فكانت مناطق الأكراد مهمّشةً من حيث الخدمات والتّمثيل مقارنةً بالمحافظات العربيّة القريبة الأقل تهميشًا؛ ممّا ولّد شعورًا بحقد المظلوم.

ثمّ فرّق النّظام بين الأكراد أنفسهم ابتداءً من الإحصاء السّكاني الذي جرى عام 1962م، ورسّخه حافظ الأسد بعد وصوله إلى السّلطة؛ حيث تمّ تقسيم الأكراد في سورية إلى ثلاثة أقسام:

مكتومو القيد: وهؤلاء غير مسجلين في القيود الرسميّة ولا يحقّ لهم أيّ شيء ممّا يحقّ للإنسان من تعليم أو طبابة أو تسجيل العقود من زواج وغيره بل حتّى تسجيل الأبناء غير متاح فهم مكتومو القيد كآبائهم؛ ويمنعون من السفر والتنقل من محافظاتهم إلى أخرى داخل سورية إلا بعد حصولهم على ‏موافقة أمنية خاصّة؛ وهؤلاء تجاوز عددهم مئة وسبعين ألفًا مع بداية عام 2011م حسب إحصاء بعض المنظمات الحقوقيّة غير الحكوميّة.

الأكراد الأجانب: وهم الذين تم منحهم بطاقة أجنبي، وبناء عليها يمنع من أيّة حقوق تقتضيها المواطنة، وتتم معاملته معاملة الأجنبي، ولا يحق له التملك أو العمل وتجاوز عدد هؤلاء ثلاثمئةٍ وخمسة وأربعين ألفًا من الأكراد في سورية حتى عام 2011م حسب إحصاء منظمات حقوقيّة غير حكوميّة.

الأكراد المواطنون: وهذا القسم من الأكراد يشمل من تم منحهم الجنسية السوريّة، ولهم كامل حقوق المواطن السّوري، وغالبيّة هؤلاء كانوا متوزعين في محافظات دمشق وحلب إلى جانب مناطق الجزيرة السوريّة.

وهذا التقسيم جعل الأكراد يشعرون بالتحاقد فيما بينهم فيحقد مكتومو القيد على البقيّة بينما ينظر الأجانب إلى الحاصلين على الجنسيّة السوريّة بنظرةٍ سلبيّة ممّا تسبّب بتمزيق الأكراد فيما بينهم بعد أن تمّ تمزيق الوشائج بينهم وبين العرب.

ثمّ عمل النّظام على تعزيز العصبيّة المناطقيّة بطريقة غير مسبوقة، فاستثمر ما ترسخ في الوعي الجمعي العربي من تفريق بين أهل الريف وأهل المدينة وبين هؤلاء والبدو ليغذي الثقافة التي تزرع التّحاقد وتمزّق النسيج.

والأمثلة على ذلك كثيرة لا تكادُ تُحصر ومن أجلاها صورة "الشّوايا"، والشّوايا لفظ يطلق على أهالي ريف دير الزور والرّقّة والحسكة.

فعلى مدار عشرات السّنوات من حكم الأسد الأب تمّ ترسيخ صورة الشّاوي في الإعلام السوري من مسلسلات ومسرحيّات وأمثال على أنّه الشّخص الغبيّ الجاهل المتخلّف، حتّى صار الوصف الذي يصف به الكثيرون على امتداد الأرض السوريّة الشّخص الغبي المتخلّف بأنّه "شاوي"، وكثيرون ممّن يستخدمون هذه الكلمة للسباب أو الانتقاص من الآخرين لا يعرفون أنّها تدلّ على شريحة اجتماعيّة واسعة من أبناء عشائر الرّقّة ودير الزّور والحسكة؛ هذه الشريحة التي غدت تفور حقدًا على أبناء المدن والمحافظات السوريّة.

ناهيك عن افتعال المعارك الاجتماعيّة بين أبناء الرّيف والمدينة من خلال آليّات الاختيار للمناصب الحكوميّة وإدارات الدّولة وكلّ ذلك كان يتمّ بتأجيج أجهزة الأمن التي تظهر في النّهاية بمظهر المصلح الحكيم الذي يجمع الجميع ويوفّق بينهم.

منهجيّة التّدمير بالاستضعاف والاستقواء

في عام 2000م حدثت انتفاضة غير متوقّعة في مدينة السّويداء ذات الغالبيّة الدرزيّة في جنوب سورية إثر إشكال حدث بين بعض الرّعاة من البدو وأصحاب بعض المزارع التي تعدّى عليها البدو مما أسفر عن مقتل شاب من الدروز.

اندلعت المظاهرات في السويداء لتتحوّل إلى انتفاضة ضدّ النّظام وسياساته في المدينة.

عندها سخّر النّظام إعلامه الرّسمي والوحيد لتكريس صورة مفادها بأنّ ما يجري في السويداء هو أحداث شغب بين البدو وأهل السويداء، حتّى صار الإعلام المحلّي والدّولي يطلق عليها اسم "أحداث البدو"

وعلى الفور سارعَ النّظام عبر أجهزته الأمنيّة إلى دعم البدو وتزويدهم بكل ما يريدونه من أسلحة وسلّطهم على الدّروز لقمع انتفاضتهم، فظهر الأمر على أنّه فتنةٌ اجتماعيّة بين البدو وأهل مدينة السويداء وفتنةٌ طائفيّة بين الدّروز والسّنّة.

وظهر النّظام بوصفه ضامنًا لأمن المجتمع، ومرجعًا يهرع إليه الدّروز لينقذهم من تسلّط البدو الذين يعرف الجميع أنّهم كانوا ذراع النّظام في هذه المعركة، وهم الذين يعانون من ظلمه وجوره كما يعاني دروز السويداء تمامًا.

ويتكرّر المشهد في 12 آذار "مارس" من عام 2004م إذ اندلعت الانتفاضة الكرديّة في مدينة القامشلي السوريّة

ولهذه الانتفاضة أسباب عميقة من الشعور بالظّلم المركّب والتّهميش المضاعف، إلى جانب التشجيع من معاينة ما ناله أكراد العراق من حقوق لا سيما عقب عام 2003م

فكانت انتفاضةً شعر فيها الأكراد بالخذلان من العرب الذين لم يشاركوهم ولم يساندوهم، وكان هذا الشعور هو أحد أهمّ أسباب تردّد الأكراد بالمشاركة في ثورة عام 2011م.

سارع النّظام إلى مواجهة الانتفاضة الكرديّة بالقمع بطرق شتّى، وكان من وسائل مواجهته لهذه الانتفاضة تشكيل مجموعات من العرب وتسليحها وزجّها لتكون رأس الحربة في قمع الانتفاضة الكرديّة وقد تمّت تعبئتهم ضدّ الأكراد بحجّة أنّهم يريدون تقسيم سورية وإقامة دولة خاصّة بهم وطرد العرب والاستيلاء على أرضهم.

هاجمت هذه التشكيلات مناطق الأكراد فأحرقت المحال التجاريّة وساندت النّظام في قمع الانتفاضة التي أدّت إلى سقوط ثمانية وأربعين قتيلًا وأكثر من ثلاثة آلاف معتقل من الأكراد.

وما هذا إلَّا مثالان عن هذه المنهجيّة المطّردة التي انتهجها النّظام في تقوية بعض المكوّنات على أخرى، وشعور بعض المكوّنات بحاجتها إلى النّظام لتبقى في حيّز الوجود؛ سبّب تدميرًا للنسيج الاجتماعي في سورية الأسد.

بلغت هذه السياسة ذروتها عقب ثورة عام 2011م حيث أدّى النّظام بعض المشاهد التي لا يمكن إلّا أن تكون مشاهد إثارة وتهييج في مسلسل تفتيت النّظام لنسيج المجتمع السّوري.

ومن هذه المشاهد المأساويّة في حقيقتها وفي تأثيراتها اعتياد النّظام في المناطق الساحليّة في طرطوس واللاذقيّة حيث يتداخل الوجود السنّي بالوجود العلوي عندما كان يداهم القرى والمدن السنّيّة أن يقتاد المعتقلين إلى فروع الأمن ولكنّه قبل ذلك كان يمرّ بالباصات المحمّلة بالمعتقلين إلى القرى العلويّة ويدعو أهالي تلك البلدات إلى الخروج ويسلّمهم المعتقلين للتنكيل بهم وإهانتهم بطريقة مقزّزة قبل نقلهم إلى المعتقلات، ممّا كان يغذّي الاحتقان الطّائفي الذي يدمّر نسيج المجتمع ويمزّقه شرّ ممزّق.

منهجيّة التّخوين وإعدام الثّقة

من أهمّ إنجازات نظام حافظ الأسد أنّه جعل كلّ مواطن سوريّ ينظر إلى جميع النّاس بمن فيهم المقرّبون منه على أنّهم مخبرون وعملاء للأمن.

استطاع النّظام عبر أجهزته الأمنيّة أن يقنع الجميع بأنّهم مستهدفون من الجميع، فلا ثقة بأحدٍ ولا طمأنينة لكلمةٍ تقال أمام مخلوق؛ وبالتّالي لا يمكن أن تجتمعَ ثلّةٌ على عمل أو مشروع لا يكون على عين النّظام وتحت رعايته.

ومن الأمثلةِ والنّماذج المتواترة على هذه المنهجيّة والأمثلة جمّة:

يعلمُ الجميعُ أنّ كلّ خطيب مسجد في سوريا لا بدّ أن يتمّ استدعاؤه إلى أجهزة الأمن المختلفة.

وممّا اعتادته أجهزة الأمن اللّعب على وتر الخلافات الدينيّة لا سيما الاختلاف بين المدارس والتيّارات الشرعيّة والجماعات المشيخيّة.

فكثيرًا ما يتمّ استدعاء خطيب مسجد أو داعية فيقول له المحقّق: والله نحن لا مشكلة لنا معك ونحن معجبون بخطابك لكن المشايخ لا يتركونك وشأنك، وهذا الملفّ ـ ويشير بيده إلى ملف على الطاولة ـ كلّه تقارير من المشايخ عنك، ونحن أمام هذه التقارير لا نملك إلّا أن نقوم بدعوتك وسؤالك.

وهنا تنعدم ثقة هذا الشّيخ بالشريحة كلّها ولا يفتأ يخوّنها في نفسه ويتوجّس خيفةً من أيّ لقاء معها.

وهذه المنهجيّة كانت تُمارَسُ مع الشرائح كلها من أطباء ومهندسين ومعلمين وكتّاب وصحفيين ووجهاء.

ومن الأمثلة على هذه المنهجيّة أيضًا؛ أنَّ أجهزة الأمن كانت إذا عرفت عن أيّ اجتماع يحدث ولو كان سهرة اعتياديّة بين مجموعة من الناس فسرعان ما يتمّ استدعاؤهم إلى فرع الأمن فرادى، ويقول المحقّق لكلّ واحد منهم: لقد كنتم عشرة أشخاص، وقد وجدت على طاولتي عند وصولي صباحًا عشرة تقارير عنكم!!

وهكذا يظنّ كلّ واحد من هؤلاء المجتمعين بأنَّه كان يجالس مجموعة كلّها من المخبرين وعملاء الأمن فيعتزلهم ويفقد الثّقة بهم وبغيرهم من أبناء هذا المجتمع.

هكذا كان النّظام يربّي المجتمع كلّه على أنّ كلّ أفراده عيون على بعضهم بعضا وأنّهم عملاء للأجهزة الأمنيّة التي تعرف عن المرء أكثر ممّا يعرف عنه أبوه وأمّه؛ فتنعدم الثّقة وينتشر التخوين الخفيّ الذي سرعان ما يغدو علنيًّا مع تنفّسُ نسائم الحريّة.

مطر هذه الفرقة من غيم ذاك التّفريق

أنتجت سياسة النّظام الممنهجة مجتمعًا في غاية التّفتيت المجتمعي عرقيًّا وطائفيًّا، لكنّ هشاشته كانت مستورة بغلالة رقيقة من الأمن الموهوم الذي بقي النّظام يتغنّى به عقودًا طويلة.

وما أن تراخت قبضة النّظام حتى تمزّق هذا النسيج الرّقيق واكتشف الجميع هشاشة المجتمع الذي صُنع على عين حافظ الأسد.

وانعكس هذا التّمزيق والتّدمير الممنهج للنّسيج الاجتماعي على مكوّنات الثّورة والمعارضة التي فقد الجميع فيها الثّقة بالجميع، وغدا التخوين الصّامت في ظلّ قمع الأسد تخوينًا علنيًّا في الفضاء الثّوريّ المفتوح.

حالة الهجوم الشرس على أيّة شخصيّة صاعدة في المعارضة السوريّة، وحالة الهدم العنيف لكلّ الكيانات تعكسُ نتاج عقود من التمزيق الذي مارسه النّظام؛ فأتى على البناء المجتمعيّ من قواعده تمزيقًا وتفتيتًا وتدميرًا.

فعمومُ الطّوائف السوريّة لا تثق ببعضها بعضا ولو تبادلت المجاملات العلنيّة، وعمومُ القوميّات السوريّة لا تصدّق بعضها بعضا ولو أنّها تحدّثت عن الثّورة الواحدة والمصير المشترك.

وكلّ هذا المطر من ذلك الغيم الأسود الذي لبّدته سياسات حافظ الأسد وفريقه الأمنيّ العتيد، هي أجراسُ خطرٍ تُقرَع ملء السمع والبصر؛ فمتى تتنبّه القيادات المجتمعيّة إلى ضرورة التّدارك ومحاولة العلاج وبناء سفينة النّجاة الجامعة قبل أن يشتدّ مطر التمزّق فيغرق الجميع ولات ساعة مندمِ.ش

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين