المؤمن الشكور

الشكر حالة من السرور، يظهر أثرها على صاحبها، ويقصد صاحبها أن يعبر عنها، ويحاول أن يكون هذا التعبير طريقاً للتواصل مع الآخرين، والتفاعل مع البيئة. ولعل من مظاهر الذكاء الانفعالي أن يتمكن الإنسان من استثمار هذا التواصل والتفاعل في الوصول إلى نفسية مطمئنة راضية، والتأثير في البيئة لتكون مصدراً للانفعالات الإيجابية.

وأظن أن كل واحد منا يستطيع أن يتذكر موقفاً رأى أو خبر فيه كيف يعبر الأطفال عن سرورهم، وكيف يشكرون من قدم لهم هذا السرور، خاصة عندما يكون هذا السرور مفاجئاً. وكل واحد أيضاً يعلم أن تكرار مواقف الشكر يؤدي إلى تنمية الشعور بالأمان والتفاؤل، وإلى تطور عواطف المحبة نحو الآخرين.

الشكر إذن هو مظهر من التعاطف، يمارسه الأطفال ويحتاجه الكبار، وقد يكون سهل الملاحظة في سلوك الأطفال، أما في حياة الكبار فقد لا نلاحظه دائماً، وقد يظهر بمظاهر وسلوكات متعددة، بتأثير التطور الانفعالي والمعرفي وغيرهما من جوانب النمو.

وفي انتقال الإنسان في أطوار نموه المتتالية يتعرض لمثيرات بيئته ومتغيرات حياته، وفيها السار وغير السار، لكن يبقى على الإنسان أن يسعى لجعل علاقاته الإيجابية ومشاعره المتفائلة هي الأكثر تأثيراً، إن علينا أن نحافظ على متعة الشكر التي عرفناها عندما كنا صغاراً.

إن الطفل الصغير يفرح بناء على معرفته البسيطة وفهمه المحدود لحياته، فهو قد يفرح بقدوم والدته، أو بعلبة الحلوى، أو بقرع جرس الباب، أو برؤية مشهد مثير على التلفاز، أو بتكسير أحد ألعابه ...، لذلك قد يمكننا بقليل من الجهد أن نحقق لهذا الصغير ما يحقق له السرور ويشكرنا عليه، بل يمكننا بالعناية الدائمة والتفاعل الإيجابي معه أن نجعل في كل تغير في بيئته مصدراً لسروره.

أما الكبير فهو مثقل بمعرفة معقدة، وخبرات متراكمة، فكيف يمكنه أن يصنع السرور لنفسه؟ إن ذلك متعلق بمهاراته في تطوير معرفته، وفهمه لنفسه، وإدارة عواطفه. ويختلف الناس فيما يحملونه من هذه القدرات، كما يختلفون في كيفية توجيههم لهذه القدرات، لذلك ترى توجهاتهم نحو الحزن والسرور متعددة وكثيرة، لكن المتميزين من الناس في هذه القدرات يمكنهم أن يبحثوا في كل تغير في حياتهم عن عن عنصر يعينهم على الوصول إلى انفعالات سارة، وعواطف إيجابية، وبناء علاقات مودة مع الناس والأشياء في بيئتهم.

لكن أرقى المعالجات والفلسفات التي تحقق للإنسان هذا القدر من نمو المشاعر المتفائلة هو معالجات المؤمن بالله تعالى وبقدره، إنه نموذج المؤمن الذي تعجب منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "عَجَباً لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سَرَّاء شَكَر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر فكان خيراً له". هذا المؤمن طور معرفته بإيمانه، وأصبحت تجارب حياته المختلفة تمنحه زيادة في اطمئنانه إلى طريقه وطريقته، ذلك لأنه دائم الصلة بربه، وهذه الصلة بالنسبة له مصدر قريب للسرور. 

إن شكر الله تعالى على كل تغير في الحياة، سراء أو ضراء، حين يصبح سمة دائمة للإنسان، يعني أن هذا الإنسان أصبح عبداً شكوراَ، يحب أن يشكر ربه في كل وقت، ليس فقط في مواقف التغير الكبيرة في حياته، بل هو يحب الشكر على اللقمة يأكلها، وعلى اللبسة يلبسها، وعلى البسمة يقابلها. بل هو يشكر ربه على السرور الذي يناله هو، أو يناله غيره من العباد والمخلوقات، لأنه يمتلك نظرة التوحيد التي ترى في البيئة والكون كله وجوداً متناسقاً متصلاً بالخالق الواحد سبحانه وتعالى، والله تعالى ربه ورب العالمين، يعطيه كما يعطي العالمين، وهذا العطاء غير منقطع، بدليل تدبير أمور هذا الكون وهذه المخلوقات.

وهذا التوسع في المعرفة هو مصدر للسعادة والاطمئنان، ونمو خبرات الإنسان مع مسيرته في حياته سبب لزيادة الإيمان عند من آمن بالله تعالى ورضي به رباً، ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب﴾ [سورة آل عمران: الآية 8].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين