قوة الإيمان أعظم القوى

وأنت تطير في الطائرة أو تسير بسيارتك في بلاد السياحة والاغتراب ... تتجول بين الوديان والجبال، وتسيح خلال الهضاب والتلال... تسترعي انتباهك عظمة الرواسي وتخطف بصرك روعة الجبال المتناثرة هنا وهناك ... جبال تنخلع الرقاب عند ذراها وتكل العين عن الإحاطة بمداها ... فتتساءل عن أهميتها وسبب وجودها ... وتبحث عن حكمة تنوعها وتضاريسها .... وتتكاثر أسئلة لا تملك في نهايتها إلا أن تقول : سبحان الخلاق العظيم ... مصحباً ذلك بقراءة قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا } المرسلات: ٢٧ .

إن لتلك الجبال قصة لطيفة يخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكرها ثم ننفذ من خلالها إلى الغاية التي رسمنا من هذه المقالة، ففي الخبر الذي يرويه لنا الإمامان الترمذي وأحمد بإسناد حسن - كما اعتبره الإمام ابن حجر - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَرْضَ ، جَعَلَتْ تَمِيدُ ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ ، فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا فَاسْتَقَرَّتْ ، فَتَعَجَّبَتِ الْمَلاَئِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ ، فَقَالَتْ : يَا رَبِّ ، هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الْحَدِيدُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، النَّارُ قَالَتْ : يَا رَبِّ ، هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الْمَاءُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، الرِّيحُ . قَالَتْ : يَا رَبِّ ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ.

القوة الإيمانية والسلاح الروحي الذي يحمله المسلم بين جنبيه أقوى وأمضى من الريح التي تبرد الماء .... ومن الماء الذي يطفئ النار ... ومن النار التي تصهر الحديد ... ومن الحديد الذي يقطع الجبال ... ومن الجبال التي تبهرنا عظمتها والتي ثبت الله تعالى بها الأرضي كيلا تميد وتضطرب .

وفي رأيي أن مشكلة المسلمين اليوم ليست اقتصادية ولا سياسية ولا ثقافية بمقدار ما هي إيمانية ... فلو صح منهم إيمان وقوي منهم يقين لما نشأت ثم طفت كل هذه الرواسب على السطح، ولما ظهرت كل هذه السلبيات التي يعاني منها المليار ونصف المليار من المسلمين ...

إن الإيمان الحق الذي يدفع مسلماً إلى أن يغالب نفسه ويصارع هواه إلى درجة أن يخفي صدقته عن شماله لهو الإيمان نفسه الذي يجعله أكثر قوة وتماسكاً أمام الأزمات أياً كان نوعها ... بشرط أن يكون إيماناً ذا فعالية عالية ... لا يعرف الخوف ولا ينحني أمام الأعاصير ولا يعبأ بالتهديدات مهما كانت جسيمة وكبيرة .

وبذلك الإيمان القوي واليقين الماضي وقعت من أسلافنا أمور لولا صحة أسانيدها لحسبناها من الأساطير ...

إننا نتساءل : ما الذي دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يختار أن يكون نبياً عبداً لا نبياً ملكاً يجوع يوماً فيصبر ويشبع يوماً فيشكر، لولا الإيمان الذي لا يعرف الخور.

ما الذي دفعه إلى أن يحتمل الأذى احتمالاً لا تحتمله الجبال حين قال : لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاَثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَمَا لِي وَلاَ لِبِلاَلٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلاَلٍ ( رواه أحمد ) ... إنه الإيمان .

ما الذي جعل الصحابة يسترخصون الموت في سبيل الله والدعوة، ويأكلون الجوع، ويتوسدون الأرض، ويلتحفون السماء...

ما الذي جعلهم يجيبون النداء للجهاد في غزوة العسرة في ظروف استتثنائية قال عنها ابن إسحاق : "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم" ... إلا الإيمان العالي.

ما الذي جعل البكائين السبعة سَالِم بْن عُمَيْرٍ، وَعُلْبَة بْن زَيْدٍ، وَأَبا لَيْلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَعَمْرُو بْن الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُومِ، وَعَبْد اللَّهِ بْن الْمُغَفَّلِ، وَهَرَمِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ، وَالْعِرْبَاض بْن سَارِيَةَ، وقد جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ مُعْسِرِينَ وَذَوِي حَاجَةٍ، وَلَا يُحِبُّونَ التَّخَلُّفَ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فتَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَخْرُجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هَذِهِ الْغَزْوَةِ، يعرفون بهذا الوصف إلا أنهم بكوا ... لا لفراق حبيب أو وداع قريب ؟ ... بل لإيمان تأججت ناره بين جوانحهم .

ما الذي دفع العلماء العاملين من سلفنا الصالح إلى أن يرضوا بالقليل من العاجلة يقيناً منهم بالآجلة وإيماناً بأن ما عند الله هو خير وأبقى... كان أبو إسحاق الشيرازي – وهو من أصحابنا الشافعيين - إذا بقي مدة لا يأكل شيئاً صعد إلى الناصرية في أعلى بغداد، وكان له فيها صديق باقلاني، فكان يثرد له رغيفاً ويشربه بماء الباقلاء، فربما صعد إليه، وكان قد فرغ من بيع الباقلاء، ويغلق الباب، فيقف أبو إسحاق ويقرأ: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ، ويرجّع.

ما الذي أعلى من قدر عقبة بن نافع رضي الله عنه وأجرى على يديه كرامة لا تتناهى عجباً ، يوم رَأَى أَنْ يَتَّخِذَ مَدِينَةً يَكُونُ فِيهَا عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُمْ لِيَأْمَنُوا مِنْ ثَوْرَةٍ تَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، فَقَصَدَ مَوْضِعَ الْقَيْرَوَانِ، وَكَانَ أَجَمَةً مُشْتَبِكَةً بِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ (مِنَ السِّبَاعِ) وَالْحَيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَدَعَا اللَّهَ، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ نَادَى: أَيَّتُهَا الْحَيَّاتُ وَالسِّبَاعُ إِنَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - َيُقَال إِنَّه كَانَ فِي ثَمَانِيَة عشر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسائرهم من التَّابِعين - ، ارْحَلُوا عَنَّا فَإِنَّا نَازِلُونَ وَمَنْ وَجَدْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَتَلْنَاهُ. فَنَظَرَ النَّاسُ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى الدَّوَابِّ تَحْمِلُ أَوْلَادَهَا وَتَنْتَقِلُ، فَرَآهُ قَبِيلٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ فَأَسْلَمُوا، وَقَطَعَ الْأَشْجَارَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَدِينَةِ، فَبُنِيَتْ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، وَبَنَى النَّاسُ مَسَاجِدَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ.... سوى الإيمان .

فما أحوجنا إلى مثله اليوم في مجابهة أزماتنا ومواجهة مشاكلنا ...إيمان كالذي قال عنه محمد إقبال رحمه الله :

كنا جبالاً في الجبال وربما *** سرنا على موج البحار بحارا

في معابد الإفرنج كان أذاننا *** قبل الكتائب يفتح الأمصارا

لم تنس "إفريقيا" ولا صحراؤها *** ضحكاتنا والأرض تقذف نارا

كنا نقدم للسيوف صدورنا *** لم نخش يوماً غاشمًا جبارا

وكأن ظلّ السيف ظل حديقة *** خضراء تنبت حولها الأزهارا

لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو *** نصب المنايا حولنا أسوارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذي *** صنع الوجود وقدر الأقدارا

ورؤوسنا يا رب فوق أكفنا *** نرجو ثوابك مغنما وجوارا

اللهم إيماناً يباشر قلبونا ويقيناً صادقاً نواجه به الدنيا ... يا نعم المولى ونعم النصير .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين