حول القيم والمفاهيم السائدة (2)

الأصل أنَّ العصر هو مفهوم زمني، يُمكن أن يميِّز مرحلة، ويمكن أن تقوم له دلالة على التعاقب والتتالي، ولكنه بذاته لا يميز جماعة ولا تقوم به وحدة هوية. ولكننا إذا انتقلنا بالعصر من مفهومه الزماني إلى مفهوم يفيد بذاته الدلالة على حضارة واحدة أو جماعة واحدة، فإننا نكون قد أكسبنا وحدة العصر الزمانية دلالة أمميَّة، من حيث يصير العصر بذلك وحدة انتماء جماعي، تحلُّ محل وحدات الانتماء الأخرى، دينية كانت أو قومية أو غيرها. ويتحوَّل (الزمن) إلى فكر ووعي، ننظر به إلى الأمور ويحكم قيمنا وسلوكنا ويسيطر على ردود أفعالنا. 

ويفرع على ذلك القول بوحدة معيار التقويم للحاضر ثم للماضي. ووحدة العصر بمعناها السابق تقوم بها وحدة عامة للقياس التاريخي للعالم كله، تبدأ من الحاضر وتمتد في الماضي تعيد صياغة عناصره على وفق هذا المعيار العالمي الحاضر الجديد. وبهذا نعيد تقويم تاريخنا بما يقيم وحدة الجماعة البشرية في الحاضر وفى الماضي أيضاً، فالقول بوحدة العصر ينتج القول بوحدة التاريخ الذي يعنى وحدة الجماعة؛ لأنَّ التاريخ صيرورة، أي: جماعة مُتحرِّكة في الزمان.

لا بأس طبعاً، أن يتوحَّد العالم وتتوحَّد الجماعة البشريَّة في مستقبلها، وفى حاضرها أيضا، ولا بأس حتى أن تتوحَّد في ماضيها إن كان ذلك ممكنا. ولكن البأس يظهر عند معرفة هل يجري هذا التوحُّد لحساب فئة على حساب فئة، وهل يقوم به تقويم عادل لمصالح الحاضر، ورعاية لخصائص الشمول في ذاتية كل جماعة من الجماعات المكونة لهذا العالم؟

والأصل – فيما يبدو لي – أننا عندما نتحدث عن العصري والمعاصر، فإنما يتعين علينا أولا أن نحدِّد من نحن، وإننا لا نستطيع أن نحدد (عصرنا) غير منسوب لما ندرك أنَّه هويتنا، فالعصر مُضاف وضمير المخالطين مضاف إليه، وكذلك عندما نقول (ماضينا) إنما نشير إلى زمان منسوب إلى قوم معينين، وهو يكتسب معناه من هذه النسبة. وعلى العكس من ذلك من يريد أن يجعل إدراك الهوية تالياً إدراك العصر.

والأصل – أيضا – أنَّ العصر بمعناه التاريخي الاجتماعي هو مجموعة الظروف والأوضاع الفكرية والاجتماعية الاقتصادية والسياسية المعيشية خلال مرحل تاريخية، فهي بذلك وبهذه الظروف والأوضاع تتصف بملامح محددة أو يغلب عليها طابع معين، وذلك مثلما نقول في تاريخنا: بعصر صدر الإسلام، أو عصر الحروب الصليبية... إلخ. 

إنَّ كلا من هذه العصور صحيح وصادق في دلالته طالما كان منسوباً إلى الجماعة التي عاشته ومقروناً بها وهو يَكسب معناه من أوضاع تلك الجماعة وحاضرها كما يُضيف إليها من مَلامحه ومُستحدثاته، وهذه الملامح والمستحدثات هي ما يُمكن أن يقوم بها العصر (بالنسبة لأي من الجماعات، بما يُشير إلى مقدار ما تعدَّلت به ظُروفها وأوضاعها في مَرحلة مُعيَّنة، ودلالاته يَكتسبها في إطار نسبته إلى جماعة مُعيَّنة وما طرأ عليها خلاله من محدثات تعدَّلت به أوضاعها.

أما (العصر الحديث) حسب السائد من دَلالته اليوم، فهو تلك الملامح والمستحدثات التي عرفتها المجتمعات الأوروبيَّة والأمريكيَّة في الحاضر، وهي صادقة في إطارها الزماني والمكاني كملامح عينية تفتقت عنها بيئة معينة أفضى تليدها إلى طريفها. 

ولكن وجه الخطأ أو عدم الدقة، يرد من أنَّ هذه الملامح حُرِّرت من سياقها النسبي، وألصقت بمطلق الزمان المعيش، لتصير عنواناً على ما يُسمى بحضارة القرن العشرين، وجاء ذلك بصرف النظر عن أمرين:

أولهما: اختلاف الجماعات والتكوينات الثقافيَّة التي تحيا في هذا القرن عن الجماعات والتكوينات الثقافية لأوروبا وأمريكا.

وثانيهما: اختلاف الظروف والأوضاع التي تحياها كل جماعة من هؤلاء من النواحي السياسية والاجتماعية. 

أي: أنَّ التاريخ هنا قد حرر من الجغرافيا السياسية والجغرافية البشرية، وانطلق في حساب زمني مجرد و(العصر الحديث) بهذا المعنى هو في ظني أول مفهوم دنيوي بشري يرد بغير حاجة لالتقاء زمان بمكان، رغم أنَّ علم الاجتماع (الحديث) قائم دائماً على مراعاة تقاطع الزمان المكان وعلى النسبية المستفادة من ذلك. وهو ما ينفك يوصي بالتزام هذا المنهج. 

الخطأ – في كلمة-يرد في تعميم ذي الدلالة الخاصة، ويرد من نزع الأمر عن سياقه الظرفي وإطلاقه على البشرية جمعاء.

إنَّ وحدة الزمان المستفادة من التقويم الميلادي، قد اتخذت عنوانا شاملاً على وحدة التاريخ الاجتماعي والحضاري، وألحق زماننا بماضيه وحاضره، ألحق بالزمان الأوروبي الأمريكي، دون أن يُقال إنه التحاق، أو أنه يمثِّل تبعيِّة آسيويَّة أفريقيَّة، أو يمثل متبوعيَّة أوروبيَّة أمريكيَّة.

وصار من المسلَّمات على ألسنة المفكرين وأقلامهم أن يتكلموا عن حضارة القرن العشرين، وعن العصر الحديث، وصرنا نصدق من أمر أنفسنا أننا في بلادنا نحيا في عصرهم.

ولقد أحدث هذا الامر – في ظني- صدعاً عميقاً في وعينا الحضاري وفى حسابنا للزمن، أما عن وعينا الحضاري: فقد صرنا مثل الأوروبيين في التصور المثالي، رغم أننا غيرهم ومختلفون عنهم في المنظور الواقعي.

وأما عن حساب الزمن، فإنَّ وحدة الزمن التي وحَّدتنا بهم (القرن العشرين كمفهوم حضاري)، قد فصمت وعينا بحاضرنا إلى حاضرين اثنين، حاضرهم الذي صار مستقبلاً لنا نسعى على تحقيق صورته إلى بلادنا، وحاضرنا الذي صار في وعينا ماضياً لنا نسعى إلى التخلص منه. وقد سقط كثير منا بين الحاضرين في فجوة اللاإرادية والعبث.

إنَّ المواكبة الزمنيَّة لا تدل في تقديري على وحدة العصر بالمعنى المقصود هنا، وهو وحدة الظروف والأوضاع التي تحيط بالجماعة. وإذا أردنا فضَّ هذا الاشتباك بين العصور التي يحياها الناس في عالم اليوم، فيتعين أن ننظر في عالمنا العربي والإسلامي، لنرى الملمح العام الذي يميز جماعتنا في المرحلة التاريخيَّة المعاشة؛ لنصل إلى كلمة سواء حول نقطة التقاء الزمان والمكان.

والواقع أننا يمكن أن نكون واقعيين وتطبيقيين تماما في نظرنا لنقطة البداية التي تميز هذه المرحلة. فالمتفق عليه تقريبا أن هذه المرحلة بدأت في عام 1898 مع حملة نابليون بونابرت على مصر. 

وقد تكون هذه المرحلة بدأت – فيما يترجح لي – قبل ذلك بربع قرن عندما وقع السلطان عبد الحميد الأول في عام 1774 تلك المعاهدة الذليلة التي أتاحت لقيصر روسيا التدخل في الشؤون الداخليَّة للدولة العثمانية. 

وأيا كان تاريخ البداية، فالبداية هنا لابد أن تكون علامة على بدء التدخُّل الأوروبي في شؤوننا، سواء أسميناه غزواً أو فرضاً للهيمنة والسيادة، ولابد أن يكون علامة على بدء مُقاومتنا لهذا الغزو أو لهذه التبعية والإلحاق للغرب. 

وليسمي الغرب حاضرَه بعصر الذَّرَّة أو عصر الثورة الصناعية الأولى والثانية، أو ثورة المعلومات والاتصالات، وأما نحن فلا أظن اسما يصدق على عصرنا منذ مائتي سنة حتى اليوم، وإلى مدى لم ندرِ بعدُ مُنتهاه، إلا اسم (عصر التبعيَّة ومقاومتها).

إنَّ كل أحداث تاريخنا المعاصر، إخالها تفسير ولا أن يفهم معناها إلا بالنظر إلى هذا الملمح العام وتلك الصبغة المهيمنة على كل القضايا والأحداث. والتاريخ السياسي على مدى مائتي سنة، وهو تاريخ غزو مُتتابع ومُقاومات مُتتابعة، وتاريخ الاقتصاد هو تاريخ فتح أسواق بلادنا واستخراج ثرواها، وهو تاريخ سعينا لحماية ما نملك من ثروات وحماية ما نستطيع من أسواقنا ومحاولة النهوض بذلك.

والثروات التي جرت كانت ضد الاحتلال أو السيطرة الغربية، وفكرة الإصلاح قامت في تاريخنا الحديث من أجل الحصول على إمكانيات مقاومة المخاطر الخارجيَّة، سواء تمثَّل هذا الإصلاح في إصلاح الجيوش كما حدث على يد كل من سليم الثالث ومحمود الثاني في الآستانة ومحمد علي في القاهرة، أو إن تمثَّل هذا الإصلاح في إصلاح الفكر على أيدي محمد بن عبد الوهاب والسنوسي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم.... إلخ.

وحتى أفكار الإصلاح الضال أو الإصلاح الضار الذي أفسد من حيث أريد به الإصلاح، فقد استخدم لتهيئة المؤسسات الفكريَّة والاجتماعيَّة لتتلقى النفوذ الاستعماري الغربي ولنمكن له في الأرض. ذلك أنَّ ما من حركة ولا سكنة ولا فكرة، إلا واكتسبت شرعيَّة وجودها في مجتمعاتنا من أثرها الصحيح، أو من أثرها المتوهَّم، في الاستجابة للتحدي الأعظم لأوضاع التبعيَّة والإلحاق. وأي فكرة أو حركة لم تكسب معناها إلا من حيث كونها، إما تثبت التبعية والإلحاق، أو أنها تفيد التحرُّر من ذلك أو مقاومته.

أما عصر الثورة الصناعيَّة الأولى والثانية، فقد فتح بلادنا لمنتجات هاتين الثورتين وقضى على بذور ما لدينا وبراعمه، وأحالنا عيالاً فيما نستهلك من غير ما نقدر على إنتاجه، وأما عصر الذَّرَّة والصاروخ فقد أنشا سلاحاً يتهدَّدنا ولا نملكه، ولا نقدر على صناعته، وإن استطعنا منعنا به نفسه.

بهذه الصيغة العامة لعصرنا، نستطيع أن نفهم كل أمر في واقعنا، من حيث الانقسامات والوحدات والثورات والانتفاضات والرغبة في الاستقرار، وقضايا الاقتصاد والتصنيع والزراعة، ومسائل السلم والحرب، والجامع السياسي لأمتنا إسلاما وعروبة، ونظم الحكم وبناء المؤسسات وتنظيم الجيوش، والفكر والثقافة والتعليم.

نعم نستطيع أن نفهم كل ذلك وفقاً لهذا المعيار الذي يمكننا من الحكم على كلِّ حركة أو فكرة بالصحَّة والفساد.

نحن عندما نقول بوحدة العصر، بما يُفيد وحدة الظروف والأوضاع، فإنَّ ذلك يَقتضي منَّا النظر إلى العصر كجامع حَضاري وأممي يضمُّ جماعةً بشريَّة ذات مسعى واحد وتكوين مُشترك واحد. 

وهذا الجامع يمهِّد للقول بوحدة التاريخ. فالوحدة الحضارية البشرية التي تقوم على عنصر (العصر الحاضر) تؤدي بالضرورة إلى توحيد العصور السابقة. لأننا لا نستطيع – في ظني- أن نقيم جماعةً بشريَّة في وعينا، إلا إذا ترابط تاريخنا بهذا الوعي والإدراك بالحاضر.

لا أقصد أن يترابط التاريخ من حيث الأحداث، فأحداث الماضي يمكن أن تختلف داخل إطار الجماعة الواحدة، كما أن أحداث الماضي انتهت ولا يمكن الحذف منها أو الإضافة، إنما القصد أن الوعي الحاضر بحاضر الجماعة، يقوم به معيار واحد أو معايير موحَّدة للتقويم التاريخي، ولتحليل الأحداث الماضية، ويقيم منهاجا للحكم على هذه الأحداث، ويكون النسق المدرك لأحداث الجماعة، ويتحدد به ما يمكن أن نعتبره الصالح العام لهذه الجماعة وخصائصها وأساليب حركتها التاريخيَّة.

إنَّ وعي الحاضر هو ما ننظر به في التاريخ، وعندما تفاءل كارل ماركس بما يفعله الانجليز في الهند – على عهده – من تحطم الوحدات المحلية الموجودة في القرى والجماعات التقليدية، إنما كان يعبر بهذا التفاؤل عن مثل هذا المعيار التقويمي، المستخلص من النظر الأوروبي للعالم في القرن التاسع عشر.

إنَّ وحدة العصر الحاضر كجامع حضاري وبشري، تستتبع توحيد العصور السابقة، من حيث معايير الحكم والتقويم، أي: أنها تستتبع إخضاع تاريخنا الماضي لمعايير التاريخ الغربي، وإعادة كتابته وفقاً لذلك التصوير الغربي. 

وبهذا التتابع نكون قد عكسنا الصورة، فالمفروض أنَّ وحدة الماضي هي من أهم عناصر توحيده الجماعة الحاضرة، ولا يصحُّ واقعاً ومُنطلقاً أن نقر أولاً بوحدة الحاضر بحسبانها (المسلمة الأولى) ثم نرتد على التاريخ نوحده.

على أي حال فقد بذل المفكرون والمؤرخون جهوداً كبيرة لإقامة هذه الوحدة التاريخيَّة، وأعادوا قراءةَ تاريخنا وكتابته وفق ما حسبوه مَعايير ومُقوِّمات عامَّة ومعاصرة، ألحقته بالتاريخ الغربي في الأساس.

[وللمقالة تتمة في الجزء التالي]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر، العدد 71 / 72، حزيران/يونيو 1994، السنة: 1994

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين