الإسلام لا يأتي بحل ترقيعي

الشيخ : يوسف القرضاوي


 قال حكيم: لا تسأل الله أن يخفف حملك ولكن سله أن يقوي ظهرك.
إن كل الأمور التي يسأل الناس عنها من التأمين على البضائع، والاقتراض من البنوك لتوسعة التجارة، ووجود ضرائب تصاعدية عالية في بعض البلاد، مع ما يجب على المسلم في ماله من زكاة . . . كل هذه وأمثالها، لم تكن لتحدث لو كان نظام الإسلام هو الذي يحكم الحياة، ويقود المجتمع وفق شرع الله . ولكن مأساتنا أننا أخذنا أنظمة الحضارة الغربية وخاصة في المال والاقتصاد، وهي أنظمة رأسمالية، تقوم في الأساس على فلسفة للمال غير فلسفتنا، ونظرة للحياة غير نظرتنا .

فالربا يجري منها مجرى الدم في العروق، لا تحيا إلا به، ولا يمكنها الاستغناء عنه، والمعاملات المشتملة على (الغرر) تسري في نظامها كله . . ولهذا يكون من الظلم أن نحاول نحن ترقيع هذا النظام بأجزاء إسلامية، لأن هذه الأجزاء ستكون " قطع غيار " في غير جهازها وغير مكانها. إن خطأنا الأساسي أننا نستفتي الإسلام في مشكلات لم يصنعها هو، ونريد منه أن يعالج أمراضًا جلبناها نحن من مكان آخر، ولم نتبع أسلوب الإسلام في الوقاية منها. نستورد نظام المصارف أو البنوك بعجره وبجره، كما أنشأته الرأسمالية الغربية الربوية اليهودية، ونخضع رقابنا له، ونجري معاملاتنا على أساس وجوده .

ثم نقول للإسلام: حل مشكلاتنا مع البنوك الربوية.

جواب الاسلام الصحيح : أن دعوا هذه البنوك واسسوا لأنفسكم مصارف أو " بنوكًا " إسلامية الأساس، تقوم على غير الربا وتتعامل بشرع الله - إن كنتم مؤمنين. وليس هذا بالمستحيل ولا بالمتعذر لو صدقت النيات وصحت العزائم، فقد قيل: إذا صدق العزم وضح السبيل. وقد كتب كثير من الباحثين الإسلاميين المتخصصين في المالية والاقتصاد كثيرًا من البحوث الجيدة حول إقامة مصارف إسلامية، ووضعوا مشروعات عملية لهذا، ولا يحتاج الأمر إلا إلى التبني من جهات تملك المال والنفوذ. قد تقول: وما ذنب الفرد إذا انحرف المجتمع، أو انحرفت الأنظمة والحكومات ؟

وماذا يستطيع أن يفعل وهو فرد، لا يقطع عرقًا ولا يريق دمًا ؟ والجواب: أن المجتمع ما هو إلا أفراده، وقد ساهم هو بسكوته ورضاه، بل بتعامله الإيجابي مع المؤسسات اللاإسلامية - في صنع الواقع المخالف للإسلام. وينبغي أن يظل الفرد المسلم غير راض عن نفسه، وعن الأوضاع المعوجة من حوله وأن يبقى هذا الشعور حيًا متوقدًا بين جنبيه، حتى يستطيع - بالتعاون مع أمثاله من المؤمنين الثائرين على حياتهم وعلى انحرافات مجتمعهم أن يعملوا على تغيير الأوضاع اللاإسلامية إلى أوضاع إسلامية، يومًا ما.

إن هذه الشحنة هي رصيد هذا التغيير المنشود . وبدون هذه الشحنة النفسية من الغضب والنقمة لا أمل في أن يستقيم نظام أعوج، أو يصحح وضع منحرف. لا بد أن يبقي الفرد المسلم في ظل الأوضاع المذكورة شاعرًا بالإثم، وبالضيق، وبالتبرم، فإن هذا الإحساس من بقايا الإيمان، لأن معناه أنه لا يزال يرى المعروف معروفًا والمنكر منكرًا وأن أخطر ما تصاب به الأمة المسلمة أن تفقد - بطول رؤيتها للمنكرات وإلفها لها - إحساسها بها، وتمييزها لها، فلا تلبث أن يختلط عليها الأمر ويلتبس عليها السبيل، وتضطرب في حياتها الموازين، حتى ترى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا . وقد تتوغل في الضلال، فتنتهي إلى مرحلة أسوأ وأقبح، وهي أن تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، وربما تفعل ما فعلت بنو إسرائيل، فتقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس. إني أشعر ويشعر كل عالم غيور فاهم لحقيقة الإسلام وحقيقة الأوضاع من حوله ولا يأخذ الأمور بظواهرها، ومن سطوحها لا من أعماقها - أشعر بأن الفرد المسلم يعاني من هذه الأوضاع ما ينوء به ظهره،

إذا أراد أن يحيا مسلمًا حقًا، غير مخدوش الإسلام. ولكني أشعر بجوار ذلك أن من المخاطرة بدين المرء، وبمصير المجتمع كله - إصدار " فتاوى تبريرية " غايتها محاولة إيجاد مخارج فقهية لإضفاء الشرعية على الواقع الذي يضغط علينا ضغطًا شديدًا، ناسين أن رسالة الدين أن يرتفع بواقع الناس إلى مثله العليا، لا أن يهبط بمثله ليبرر واقع الناس. إن هزيمتنا الروحية والفكرية أمام الحضارة الغربية وشعورنا بالنقص تجاهها، هي التي وضعتنا هذا الوضع الغريب، وهي محاولة تطويع الدين للحياة، بدل تطويع الحياة للدين. وأي حياة ؟:

إنها حياة لم نصنعها نحن بعقولنا وأيدينا مختارين، بل صنعت لنا فأخذناها كما هي، فنحن معها مجرد مستوردين يأخذون ما يصنع لهم، لا منتجين يصنعون ما يلائمهم . وفرق كبير بين الصانع والمستورد . الصانع إيجابي منشئ، والمستورد سلبي مستقبل. ولئن جاز استيراد السلع المادية على كراهة، لا يجوز استيراد الأفكار والمذاهب، وما ينبثق عنها من أنظمة تعبر عنها، ولئن حدث ذلك في غفلة الزمن وغيبة الشخصية الإسلامية عن مسرح الواقع - لا يجوز أن يكون عملنا الفكري البحث عن فتاوى، لإلباس الأوضاع الأجنبية زيًا شرعيًا. إن أول مظاهر السيادة والاستقلال أن نتحرر من عقدة النقص تجاه الغرب وفلسفته وحضارته وأنظمته، وأن نصمم على أن نقول " لا " بملء فينا، لكل ما لا يوافق ديننا. إننا لا نبقي للدين أي احترام إذا جعلنا مهمته تبرير الواقع وتسويغ ما يفعله الحكام، يمينيين كانوا أو يساريين، رأسماليين أو اشتراكيين . أي جعلناه مجرد " موظف تشريفات " عمله أن يرحب بكل وضع جديد، ويبارك كل نظام مستحدث، فهو في أيام سطوة الرأسمالية يحلل الربا والاحتكار والتظالم الاجتماعي، وفي أيام سطوة الاشتراكية يجيز التأميم والمصادرات بحق وبغير حق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين