كيف تكون محبوباً!(5)

قاعدة بسيطة جمعت بين محبة الله تعالى وبين الأعمال اليسيرة والخطوات القصيرة..

قاعدة تحفظنا من التوتر والإرهاق والانهيار، وتحمينا من الوقوع في فخ الفورة الفجائية، والنشاط المؤقت، ثمّ الانقطاع والتوقف، والعودة إلى نقطة الصفر!

سلوك يحبه الله ورسوله، ومنهج لا يركز إلا على الأفكار الدقيقة، لتكون بوابة الحياة العامرة العميقة، ولا يذكّر إلا بالأشياء السهلة، للوصول إلى الأحلام الصعبة..

ننظر حولنا، فنرى أن الأعمال قد كَثُرت، والالتزامات قد تراكمت، والأوقات قد ضاقت، والمطلوب منا كثير، والمتاح من الطاقة والجهد قليل قليل. فهل من حلّ يرضي الحيَّ القيوم، ويدوم ويدوم، لنغيّر هذا الواقع المشؤوم؟!

نعم، الحلُّ موجود في سيرة المحبوب عليه الصلاة والسلام، حّل يحبُّه الله، ويحبّه رسولهُ، مَنْ التزم به وداوم عليه صار من المحبوبين، وانضم إلى زمرة المنجزين الفاعلين. فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: "أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ فأجاب أدومُهُ، وإن قَلّ".

وورد في حديث آخر عن نبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "يا أيّها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا، وإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قلّ"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عَمِلَ عملًا أثبته.. فهل يعجزُ أحدُنا أن يثبتَ عملًا قليلًا، حتى يؤتي ثمرته، ويرى بركته، ويعزّز لدى خالقه محبته، ويرفع به درجته؟!

لقد جاءنا النبي العدناني، قبل "الكايزن الياباني"، بمنهجية تقوم على فكرة التحسين المستمر.. منهجية تراعي الطاقة البشرية وحجم العمل والزمن المتاح، لتعطي أفضل النتائج، من خلال مفتاح الإنتاجية، ألا وهو: "المواظبة"..

وجميعنا يعرف المقولة السائدة: قليل دائم، خير من كثير منقطع. هذه العبارة إذا تحوّلت إلى نظام عمل يومي، تستطيع أن تغيّر وتيرة حياتنا السريعة، التي لا تترك لنا مجال لتحقيق كثير من طموحاتنا بحجة ضيق الوقت!!

تقول دائمًا أنك مشغول إلى أقصى درجة!!

وتقولين أنك لا تجدين وقتًا حتى لتأخذي نفسًا عميقًا!

قائمة نهارك محشوة بالارتباطات والالتزامات، ومليئة بالمهمات، فمتى إذًا ستنعم بجلسة ذكرٍ صافية؟! متى ستختم كتاب ربك؟! متى ستحضر مجلس علم ينفعك؟ متى ستقرأ كتابًا يفيدك؟ متى ستكتسب مهارة جديدة؟ متى ستحسّن مهارة موجودة؟

متى إن لم تقسّم حياتك قطعة قطعة، مرحلة مرحلة، يومًا يومًا، ساعةً ساعة؟!

متى إن لم تعشِها بالتقسيط المريح؟! نعم، قسِّط ما تحبّ أن تصل إليه، وداوم على دفع القسط المطلوب، حتى تسدد الدفعة الكاملة، وتحصل على النتيجة التامة، فترضي نفسك، ويُحبّك ربُّك.

طريقة تتيح لنا أن نعيش اللحظة الراهنة، ونملأها حركة، وأن نستثمر الدقيقة الحالية، فتملأ حياتنا بركة.

قد يظن الكثيرون أنّ النّجاح مرتبط بإنجاز مشاريع ضخمة، وينسون أن السرّ في الخطوات البسيطة، وفي الاستمرار بها، والمداومة عليها، يرهقون جداولهم بالمخططات المعقدة، ويغيب عنهم أنها لن تُنفذ إلا أن تبدأ بخطوة، تتبعها خطوة، حتى يُستكمل البناء.

هي دعوةٌ نبوية، تكلِّلها محبّةٌ ربانية، بأن نستثمر في الأجزاء الصغيرة، ونحافظ على الأعمال القليلة، لأن أمرًا لا يستمر، فلن يتراكم، وإن فعلًا لا يتراكم، فلن يحقّق شيئًا مهمًا.

إننا نتعلّم، وأحياناً بعد فوات الأوان، أن حتمية الحياة تظهر في أن نحيا كلّ دقيقة منها، وكل ساعة، وكل يوم، كأنّها الفرصة الأخيرة، أو المكسب الوحيد.

إن استثمار يوم واحد، واستغلال ساعة واحدة، والمداومة على عمل واحد، يعطينا قوةً وأمانًا وهدوءًا، يتيح لنا أن نفكّر بطريقة قد تغيّر مجرى حياتنا، أو حتى حياة مَنْ حولنا.

حدّد هدفًا لدقيقة واحدة.. كن مسبّحًا لدقيقة، كن مهللًا مكبّرًا لدقيقة، صلّ على نبيك لدقيقة، تفكر، تأمل، ابتسم، ساعد، أنفق، تنفّس، لُمْ نفسك دقيقة، اثنِ على زميل دقيقة، أرشد، إنصح، اكتب، اقرأ، رتّل.. كوني أمّاً منصتة، متفهمة، مستمعة لدقيقة، ثم كرّري، وداومي.. كن أبًا صبورًا، هادئًا، مقنعاً، محاوراً، وداوم، وكرّر.

إصنع لك عادة يومية لتتطور، وهل العادة إلا وليدة فعل صغير يتكرّر؟

ألا يبدأ ضياع الوقت بضياع دقائق، ثم ساعات، ثم أيام، وينتهي بضياع أعمارنا؟!

أمامك 1441 دقيقة ( تساوي 24 ساعة)، ستتكرر 360 مرة ( تساوي سنة جديدة)، عشها دقيقة دقيقة: ركّز على العقرب الصغير، لاحظ حركته، دُرْ معه.. اهجر دقائق الغفلة، حوّلها

إلى دقائق العجلة، استثمر العام الجديد من أول دقيقة..

إننا يجب أن نتعلّم كيف نحوّل الأشياء البسيطة إلى أعمال ضرورية واجبة التنفيذ، حتمية الاستمرار، لأنّ تلك الأعمال البسيطة مع الثبات، ستصبح خفيفة الحمل عظيمة الثمرة.

انظروا حولكم: هل البحر إلا مجموع قطرات؟ هل البناء إلا مجموع طبقات؟ هل الكتاب إلا مجموع كلمات؟ هل النجاح إلا مجموع خطوات؟ وهل الشخصية إلا مجموع عادات وسلوكيات؟

سئل أحد الحكماء يوماً: ما الشجاعة؟ فقال: صبر ساعة!

والحياة كلّها ساعات، تتطلب إقدامًا ومداومة وثبات. فتحلّوا بالشجاعة، وقسّموا الأوقات ساعة فساعة، وجزّؤوا الأعمال خطوة فخطوة. وحددّوا لكل ساعةٍ مهمة، وحافظوا على النشاط والهمّة، واستثمروا، وداوموا، واثبتوا، ولا تتمنّوا السكون، فإنه للمحبوبين لن يكون.

كتبنا الله وإياكم من المنجزين المحبوبين، الذين هجروا الكسل، وأدمنوا العمل، وإن قلّ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين