العفة الإلكترونية

المحاور

-العفة من العفِّ، والعفُّ من الكف .. والمراد: كف السمع والبصر واليد واللسان والقلب والعقل عن سماع أو رؤية أو فتح أو قول أو التعلق أو التفاعل مع أمور تسخط الله تعالى .. سواء كان ذلك التفاعل مباشراً حقيقياً أو غير مباشر افتراضي.

-القاعدة الكبرى المؤسِّسة لقيمة العفة (الطبيعية أو الإلكترونية) هي قاعدة الإيمان بأن الله تعالى يرانا ويسمعنا، وأننا مسؤولون عن تفاعلاتنا كلها، قال تعالى: " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الاسراء: 36).

من أبرز مجالات العفة الإلكترونية ما يأتي:

- كف الأذن عن سماع المنكرات.

- كف العين عن إطلاق النظر في المحرمات.

- كف اليد عن التنقل في المواقع المثيرة للشهوات والشبهات.

- كف القلب عن التعلق والارتباط بشاب أو فتاة لا يحلون لنا.

- كف العقل عن الخضوع للشبهات التي ترفع من شأن العقل على حساب الصحيح الثابت المسند من النقل.

-العفة أمر فطري حتى عند غير المسلمين .. وحرب الفجار التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام جانباً منها مع عمومته انتصاراً لهيبة وشرف الحرم في مواجهة قبائل فجرت فيه؛ خير شاهد على ذلك.

-بل حتى غير الآدميين من الدواب والهوام لديها شيء من العفة والحياء، ولك أن تتابع ذلك في عالم الإبل أو العناكب وكيف أنها تغار على إناثها وتحذر من الاقتراب من إناث غيرها، بل وتخفي كثير من الدواب سوأتها عند قضاء حاجتها، كيف لا وهي تشبه البشر (الأسوياء) في بعض سلوكاتها، قال تعالى: "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" (الأنعام: 38).

ولو سألت عن أبرز أسباب تلك الحالة من الميوعة والاستمراء والاجتراء على المعاصي الإلكترونية في زماننا فإنك تجد أسباباً كثيرة منها:

- الفتاوى التي تبيح النظر الى الصور دون البشر .. وهنا نسأل: وهل للتواصل غير المباشر وما فيه من إشارات وعبارات وإيماءات (وإيموجيات) وصورة أثر؟ .. ونجيب بأنه لاشك أن أثرها لا يقل خطورة عن خطورة النظرات والعلاقات المباشرة .. والحكم يدور مع علته.

- غياب استشعار رقابة الله تعالى وضعف الوازع الإيماني.

- التساهل فيما نرى ونسمع ونتابع باعتبار أنه أصبح لدينا تعريفات جديدة مغلوطة للمباح والحرام؛

فكل شيء متاح مباح!

وكل شيء بعيد حرام!

- الخصوصية والرخص والأمان والبيئة المحفز التي يوفرها العالم الافتراضي وقنوات التواصل، قال تعالى مبيناً ظروف البيئة المحفزة للفجور في قصة يوسف عليه السلام: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ" (يوسف).

- شيوع ثقافة ال(عادي) التي جعلت كل شيء في حياتنا عادي .. حتى لو قلت لأحدهم: أترضاه لأمك أو لأختك؟ لقال لك: عادي!!

-لم يتوقف الأمر على ارتكاب المعاصي فكل أمة ارتكبت المعاصي (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) بل تعداه إلى الرضا بها، والاطمئنان إليها، والإعجاب بها (like) .. ومشاركة الآخرين لها (share) .. فضلا عن ترك النهي عنها، قال تعالى: "كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة: 79) .. فبأي وجه يلقى الله تعالى من أبدى إعجاباً أو شارك أو نشر على صفحته ما لا يرضي الله، قال تعالى: " إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ" (القيامة: 15).

وللوقوف في وجه موجة التبلد الإيماني واعتياد المنكرات الإلكترونية لابد من اتخاذ القرار الذاتية الآتية:

- القطع والجزم بأنه كل ما يفضي إلى حرام فهو حرام، وباب سد الذرائع في الإسلام معروف، لأجل ذلك قال الله تعالى: " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ.. " (النور: ٣٠-٣١).

- تعظيم الله تعالى في نفوسنا، وتعظيمه سبحانه يستدعي محبته والخوف منه؛ أما قيمة الخوف منه فنستجلبها من التعرف العميق على أسماء الجلال الإلهي ومنها: (القهار، الجبار، المنتقم ..)، وأما محبته سبحانه فنستجلبها بالتعرف على أسماء الجمال الإلهي، ومنها: (اللطيف، الودود، الرحيم ..).

- استحضار نِعم الله تعالى علينا، فلا نعصيه في نِعَمه، بل نشكرها حتى لا نتعرض لسلبها .. فهذا يوسف عليه السلام تذكر نعمة الله تعالى عليه في ظرف حرج دُعي فيه إلى الفاحشة في أجواء مكتومة خاصة فقال: "مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (يوسف: 23).

- استحضار رقابة البشر وفضيحة الدنيا، بل وفضيحة الآخرة قبل ذلك كله، قال تعالى: "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ" (الحاقة: 18).

- استحضار واحد من أهم معاني الإثم، وأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:".. والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" رواه مسلم، فأنت في عالم (الماسينجر) تخفي من المحادثات ما لا تحب أن يظهر حتى لأقرب الناس إليك .. لأجل ذلك انتبه، قال تعالى: "وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" (البقرة: 72).

- الانتباه من الاختراقات بأنواعها؛ فكرية كانت أم أمنية أم أخلاقية، فحولك من الأعداء المتربصين من يحاول صيدك واختراق روحك بالشهوات أو عقلك بالشبهات .. وما أسهل الخداع في العالم الافتراضي؛ فكم من فتاة شاركتكَ أحلامها إذا به فتى يريد العبث معك، وكم من فتاة شاركتكِ أشجانها إذا به فتى يريد سوقكِ إلى الهاوية.

- الجزم والقطع بأن ما ترضاه للآخرين فإنك تبتلى به في أهلك .. وكما تدين تدان.

- الحذر من المجموعات المختلطة (الجروبات) حتى لو كانت بقصد العمل العام والدعوة للإسلام، فالهوى غلاب، والشيطان يجري منا مجرى الدماء في العروق .. فلربَّ مدح وثناء وابتسامات وقلوب نوزعها هنا أو هناك تصيب قلباً خاوياً فتسكن .. وهيهات هيهات أن تخرج.

- استشعار الأثر القبيح للإدمان الإلكتروني على وظائف الدماغ والقلب والبصر، فالإدمان شكل من أشكال القتل البطيء، والله تعالى يقول: "وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" (النساء: 29).

- الانتباه إلى مداخل الشيطان فيما يسمى بالوعود الوهمية الخادعة؛ فكم من شاب وعد فتاة بأنه يريد أن يتعرف عليها عبر الواتس أو الفيس أو التيلغرام بنية الزواج بها .. ودخل من شبابيك ونوافذ وثقوب صفحاتها، بدلاً من الدخول من بوابة بيت أهلها .. فلما قضى منها وطره وأخذ متعته بتقليب النظر في صورها وسماع صوتها ومغازلتها، تركها خاوية على عروشها؛ تندب حظها وتعيش لحظات المقت لنفسها بسبب خيانتها لأهلها؟!.

- استقراء حجم الدمار الأسري والتفكك المجتمعي الذي أحدثته قنوات التواصل بسبب تجاوز الخطوط الحمراء في العلاقات (من طلاق، وخُلع، ومواعدة، ولقاء، وزنا) ففي الوقت الذي قرّبت فيه هذه القنوات البعيد (الرفيق والصديق والصاحب والحبيب والعشيق) فإنها أبعدت القريب (الأب والأم والزوجة والإخوة والأولاد) .. فكانت النتيجة خسارة القريب وعدم الربح للبعيد.

- إشغال الوقت بالنافع والمفيد من الصحبة الطيبة والاعمال التطوعية الهادفة والقراءة الهادفة والبر والصلة، والحذر من الفراغ أو الخلوة التي يغريك بها الشيطان ويطغيك.

- ممارسة الرياضة بأنواعها، والاقتراب أكثر من عالم الطبيعة، والتخفف من ساعات التواصل الإلكتروني، بشكل تدريجي، فما فسد في دهر قد لا يصلحه عمل شهر.

- التوقف عن نشر الصور في المناسبات المختلفة للبنات، أو مشاهد استعراض العضلات والسباحة بالنسبة للشباب.

- الحذر من كل صور الخضوع بالقول بالنسبة للبنات، قال تعالى: "فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا" (الأحزاب: 32).

- الندم والاستغفار عن الأخطاء والخطايا السابقة، وفتح صفحة جديدة مع الله تعالى، وشكره والثناء على ما ستر مما فات من غشنا لأنفسنا، قال تعالى: "عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ" (البقرة: ١٨٧).

- الاستثمار الأمثل لتلك المواقع والقنوات باستخدامها كأداة من أدوات طلب العلم وتحصيل المعرفة، ونشر الخير والدعوة إلى الله، والتعارف وفتح آفاق العلاقات المحمودة في إطار الجنس الواحد، ونصرة المستضعفين، ورد الشبهات، وتعرية الباطل، والترويح المباح.

- اليقين التام بأنه من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، سواء أكان هذا العوض لذة ومتعة وبركة في كل شيء يجدها في حياته، أو جنة وثواباً وحوراً حساناً ينتظرنه بعد موته، قال تعالى: "وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا" (الواقعة: 26).

- الانتباه الشديد والحذر من عالم (اليوتيوب) وما يعرض فيه من أفلام وصور متحركة، لاسيما عند ذهابك للبحث عن أشياء إيجابية فيدفعك الفضول لاكتشاف ما يُعرض لك من خيارات، إذ بك تتوسع في المباح ثم تذهب إلى المكروه وترتع في الشبهات، وهنا لا تستطيع الخروج من مستنقع الحرام الطافح بالتماسيح والخنازير، فلا تنس استشعار قول الله تعالى:" يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" (غافر: 19).

- فتنة العالم الافتراضي لا تقف عند شيخ أو عالِم أو داعية أو رجل له مكانة واحترام في قومه، فهي فتنة عامة طامة لأجل ذلك ينبغي الحذر وعدم الاستطالة والتوسع حتى عند الافتاء والاستفتاء، ومن وجدت امرأة تفتيها فذاك أفضل من رجل، ولا يكشف المفتي من سوءات أحوال الناس وأخبارهم إلا بمقدار ما يكشف الطبيب عند الحاجة والضرورة.

وختاماً

مع أهمية ما سبق من قرارات ذاتية لصناعة حالة من التوازن عند الأخذ بقنوات التواصل، إلا أنه يبقى على عاتق الأسرة الشيء الكثير، فلا داعي لوجود (الباسوورد) والخصوصية بين أفراد العائلة الواحدة، ولابد من تذاكر معاني تعظيم الله تعالى في الأسرة بشكل مستمر، وأن تتيح الأسرة لنفسها أن تعيش حياة طبيعية بالتخفف من الأجهزة وساعات تعاطي (الانترنت) عندها .. كما أن على الدولة التي تحترم نفسها وتريد تكثيف نقاط القوة فيها لا تشتيتها؛ أن تحجب المواقع الإباحية، وأن توجه الشباب تحديداً إلى معامل الإنتاج والاستثمار النافع لأعمارهم، لا أن تستمتع بإشاعة الفاحشة الإلكترونية فيهم، وصدق الله: " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النور: 19).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين